أناشيد صغيرة ديوان شعرى وحيد لأستاذ الأدب العربى القديم والنقد الراحل الدكتور أحمد كمال زكى. وقد صدر هذا الديوان عام 1963، بمقدمة لفاروق خورشيد، ضمن مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية.
والصفحة الأخيرة من الديوان تحمل تنويها عن مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية، وتذخر بأسماء مثل: سهير القلماوى، وشكرى عياد، وعبدالغفار مكاوى، وعز الدين إسماعيل، وحسين نصار، وفاروق خورشيد، وعبدالرحمن فهمى، وأحمد كمال زكى، وصلاح عبدالصبور الذى كان له تحت الطبع ديوان شعرى بعنوان «أقول لهم»، وقد صدر بعد ذلك بعنوان شهير مغاير هو «أقول لكم».
هذه الكوكبة من الأسماء هى بعض من ضمتهم الجمعية الأدبية المصرية فى ذلك الوقت، وهى توضح لنا مدى قوة الحركة الأدبية نقدا وإبداعا، ومدى مساهمة مؤسسات المجتمع المدنى وجمعياته الثقافية فى الحراك الثقافى إبداعا ونقدا ونشرا، وهو الدور الذى ندعى أننا نهتم به الآن أكثر من ذى قبل، لكن حقيقة الأمر أن الاهتمام السابق به كان أكبر، وأن الأسماء التى انتظمت فى عقد الجمعية المصرية الأدبية على سبيل المثال إذا وجدنا الآن من يدانيها، فكل واحد منهم ستجده أمة وَحْدَهُ، يشكك فى الآخرين ويقاطعهم، ولا يبحث عن نخبة تناظره للتعاون فى عمل جماعى من أجل الشأن الثقافى العام، بل يبحث عن أشباح مجذوبة تتبعه ليكون أميرا عليهم، وهو منطق قد يكون له ما يبرره لدى جماعات المتصوفة، لكنه لا يمكن أن ينتج جماعات أدبية يجب أن تتألف من أنداد متحابة إنسانيا ومختلفة فكريا اختلاف التنوع، حتى تؤدى دورها بنجاح.
ونعود لمقدمة الديوان التى يرصد فيها فاروق خورشيد طبيعة المناخ النقدى السائد آنذاك، حيث يقول: «افترض أصحاب الشعر الجديد أنه ينبغى أن ينسلخ عن ذات الشعر ليرتبط بذات مجتمعه، فتطلبوا أن يكون المضمون موضوعيا لا ذاتيا شخصيا. ومن هنا أرغموا الشعر الجديد على أن يرتبط بشعارات ظنوا أنها تمثل حركة المجتمع وتدفع إلى تطوره، ونادوا باستبعاد نغمات الحزن والتشاؤم وغيرها مما افترضوا أيضا أنه يعوق الشعر الجديد عن تحقيق الهدف الجماعى الذى يطلبونه».
وقد كان أحمد كمال زكى كما يقدمه هذا الديوان النادر شاعرا ثائرا يغرد خارج السرب الذى يكتب إبداعا موجها يتغنى بإنجازات الثورة بينما يعانى الشعب من الانكسار والهزائم المتوالية، فقد كتب من السودان يقول لصديقه صلاح عبد الصبور:
صلاح قل.. من ذا توسد التراب
لداتنا.. إذن دنا ميعاد ثار
أحبتى.. إذن ندك السور من حول التتار
يا صاحبى:
لو زارنا الموت المهيب فهو موتٌ..
سَمِّهِ ـ ما شئت ـ حقا أو قدر
واكتب فإنى منتظر
طول النهار
والليل أطويه مراثىَ.. أغنياتٍ
للذين ودَّعُوا السلاح من بعد انتصار
ترى نَلِين؟
لا.. بل حسمنا الأمر
لن نقبل أن نلجَّ فى عار الإسار
على أن هذه الثورة لم تكن متعلقة فقط بالعدو الخارجى، بل كانت متعلقة أيضا بالأوضاع السياسية الداخلية التى يرى أنها كانت المتسبب الرئيسى فى هذه الانكسارات، حيث يقول:
آه يا مصر
قد توقعتُكِ ـ يوما ـ أن تثورى
لم تثورى
وتوقعتُكِ أن تودى بخصمى
ساد خصمى
وانقضى عمرٌ طويل
وكأنَّا لم نكن إلا لتأوينا السجون
أو نهون
أصحيح أننا عشنا مع المجد
كما عاشت شعوب؟
يا بلادى
أى جدوى إن رضينا بالضياع
بين سمسارِ حروبٍ ومغامرْ
لِمَ قُلْتِ الموت حتف الأنفِ..
مثل الموت صبرا بالخناجرْ
أَلِنَحْيا بيدينا القَيْدُ والوردُ
ـ فسيَّان الحياه ـ
أم لكى نغضب فى حجم التآمر؟
إن من شاء مع الصعب حياه
باع للموت الحياه !
وقد وصل اليأس بالشاعر إلى درجة تفضيله الموت على الحياة، فى هذا العصر الذى يرى أنه اعتمد على تزييف وعى الشعب بدلا من صناعة إنجازات حقيقية، حيث يقول:
طوبى لمن سبقوا إلى دار الخلاص
فكوا طلاسمهم..
وقالوا: الموت حَدٌّ.. لا نهاية
الموت للموتى بداية
قالوا: ويوما ما سيأتى من هواء البحر..
أو من مَوْجِهِ من لا يُرَوِّجُ..
قصة مُمِلة عن البطل
عن الرَّغَدِ
عن أى شيءٍٍ لم يكن
ولن يكونَ إلى الأبد !
***
أيوبُ
كم عاما بُلِيتَ
وكيف كان البرءُ
لا ترحل بنا للصبر..كابدناه حلما وحقيقة
أيوب عدنا.. لا تسل عن مبتلين
بل سل إذا كان الأمير
يعيش فينا كالنبى بلا نبوءة
وقد أوجز الشاعر رؤيته هذه واضحة متبلورة فى ختام قصيدة «إصرار»، حيث يقول:
هذا السجل رصيدنا
تاريخ جيل الحائرين الطيبين الأشقياء
والراجعين مع الرياح
شهادة منا على عصرٍ أُدِين
وقد فُضِحْ
فضحته مهزلةُ الهزيمةِ حين تأخذُ
صورة للانتصار !
من كل ما تقدم نجد أن الشاعر الثائر أحمد كمال زكى الذى كان فى حياته «فتوة» بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، فقد كان نبيلا وشهما وبطلا فى الملاكمة، كان يمثل صوتا شعريا واعدا مواكبا فنيا وتاريخيا لرواد الشعر الحديث، لكن ماكينة المنهجية الأكاديمية قد حولت إنتاجه الأدبى من الإبداع إلى النقد، كما فعلت مع كثيرين غيره نذكر منهم عبد القادر القط وعز الدين إسماعيل.