الانفراط الإقليمى.. أعلى مراحل العولمة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الانفراط الإقليمى.. أعلى مراحل العولمة

نشر فى : الأربعاء 16 نوفمبر 2016 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 نوفمبر 2016 - 10:25 م

بكل المعانى وفى كل الأوقات لم يكن مقبولا من حيث المنطق وواقع الأحوال الحديث عن احتمال انفراط الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الأغنى على امتداد أكثر من قرن والأقوى والأعظم على امتداد نحو سبعين عاما. فجأة، وبفضل الانتخابات الأمريكية الأخيرة لشغل منصب رئيس الدولة، وجدنا أنفسنا وسط فورة هائلة من اجتهادات تحاول تفسير ظاهرة المرشح عن الحزب الجمهورى وهو ليس من الحزب بل هو خصم له وعنيد فى خصومته، وظاهرة المرشح الملياردير وهو كاره لطبقة رجال المال المهيمنة على السياسة والاقتصاد، وظاهرة الرجل المتعصب بعنف لبشرته البيضاء ومع ذلك تجاسر فرشح نفسه لرئاسة أمة متعددة الألوان والأعراق والعقائد والأصول، فورة تحاول أيضا تفسير شعارات رفعها متظاهرون وتحدث عنها مفكرون وشباب جامعات فى ولايات بعينها تهدد بالدعوة للانفصال عن واشنطن وتنقل حال الاستقطابات الاجتماعية والعرقية إلى مستوى مختلف تماما.

***

نستطيع ببساطة متناهية تحميل السيد ترامب المسئولية عن تهور شباب فى ولايات غرب أمريكا راحوا ينددون بوصوله إلى أعلى منصب فى البلاد ويدعون إلى الانفصال. لم أقابل أحدا خلال الأيام الأخيرة إلا وألقى على ترامب اتهاما بالمسئولية عن تطور أو آخر. ننسى جميعا أن الرجل هو نفسه ثمرة من ثمار تطور عالمى هائل إخترنا له قبل عشرين أو ثلاثين عاما صفة أو لقب «العولمة». الرجل نفسه لا ينكر فالعولمة هى التى فتحت له أبواب أوروبا الشرقية وروسيا والدول العربية ليغرف ما شاء من الثروات فى زمن الحدود المفتوحة والأموال المتحركة بيسر. استفاد مثل كثيرين من تسهيلات انتقال العمالة حين اختار جميلات أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية سلعا عرف كيف يصقلها قبل أن يعرضها فى مباريات ملكات الجمال والأناقة والذكاء والتمثيل والتصوير. ونجح. نجح لأن العولمة كانت مسيرة يمشى فيها أمثاله، تحميها الدول الغربية العظمى، أينما ذهب من أجل سلعة أو قرض أو كنز وجد حراس الدول فى انتظاره عند الحدود المفتوحة له ولأقرانه من التجار والمستثمرين وكبار موظفى الشركات والمؤسسات الاقتصادية الدولية. استفاد السيد ترامب من العولمة إلى أقصى حد، واستفادت منه العولمة أيضا إلى أقصى حد. أتصور أحيانا أنه لو لم يكن موجودا فى سنوات صعودها لأوجدته العولمة مثلما أوجدت الألوف من المفكرين والاقتصاديين الذين أعادوا صياغة علوم الاجتماع والسياسة وتفكيك بعضها إلى جزيئات ثم راحوا يرتبون الهويات والانتماءات وفق هذه الجزيئات. جدير بالذكر هنا أن أمريكا الدولة الأعظم الراعية للعولمة لم تفلت من التداعيات الجانبية لها وها هى أمامنا تدفع الثمن كما دفعنا ودفعت غيرنا من شعوب أوروبا والشرق الأوسط.

***

أذكر كيف كنت مغرما بتجربة الاندماج الأمريكية الكندية، والعلاقة المصاغة بكل دقة بين الولايات المتحدة والمكسيك. أتحدث هنا عن فترة أواخر الستينيات، أى الفترة السابقة مباشرة على سنوات العولمة كما عرفناها فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. بمعنى من المعانى كانت تجربة الاندماج فى قارة أمريكا الشمالية مقدمة نموذجية للعولمة تماما كما كانت تجربة اتحاد الحديد والصلب الذى كان يضم فى عضويته هولندا وبلجيكا ولوكسمبرج وفرنسا وألمانيا وإيطاليا مقدمة نموذجية أخرى. كانتا تجربتين فاتحتين لشهية الشركات الدولية ورءوس الأموال المتجمعة بوفرة فى عديد الأسواق المالية وللصين، الدولة الصاعدة الأكثر استفادة من العولمة.

لذلك كان لتهديدات المرشح وقع الصدمة عند شخص مثلى نشأ فكره السياسى عن الاندماج أو التكتل الإقليمى مع نشأة وتطور هاتين التجربتين بالاضافة إلى تجربة إقامة تكتل إقليمى يضم الدول العربية حديثة الاستقلال. خرج ترامب على الناس بإنذار مفاده لو انتخب رئيسا فإنه سوف يقيم سورا إسمنتيا على طول حدود بلاده مع المكسيك لمنع انتقال الأشخاص وأنه سوف يوقف المفاوضات الجارية لمزيد من تحرير التجارة مع كندا وغيرها من الدول حتى لا تخرج رؤوس الأموال الأمريكية إلى الخارج لتبنى مصانع فى دول أخرى توظف عمالة وطنية وتنتج بضائع يصدروها إلى أمريكا بأسعار متدنية. حجته أن عمال أمريكا « البيض» عاطلون عن العمل بسبب هذه السيولة فى انتقال الأشخاص والأموال والبضائع. كان ترامب واضحا كل الوضوح، لا انتقال حر للعمالة ولا نزوحا لرءوس الأموال، بمعنى آخر لا عولمة. العولمة فى نظر ترامب هى المسيرة، التى بسببها اختفت مئات الألوف من وظائف الرجل الأبيض فى أمريكا.

***

ما لم يقله أوباما علنا هو أن الوظائف التى اختفت كانت تلك التى يعمل فيها الشباب والرجال والنساء من حملة الشهادات المتوسطة، أى من هؤلاء الذين لم يحصلوا على تعليم جامعى. اختفت الوظائف لأن العولمة فرضت الانتقال إلى اقتصادات التكنولوجيا الأحدث، وهذه تطلبت وظائف عالية التأهيل الجامعى. لم تكن الهجرة السبب فى اختفاء الوظائف المخصصة للعمال ذوى البشرة البيضاء، إنما كان السبب هو تقاعس الحكومات الأمريكية التى تهيمن عليها مصالح قوى المال والأعمال عن تأهيل القوى العاملة البيضاء وتدريبها للعمل فى الصناعات ذات الطبيعة التكنولوجية. فضلت عليهم الاعتماد على عمالة وظروف انتاج أرخص وضرائب أقل فى دول فقيرة أو على استخدام المهاجرين من أمريكا الوسطى ومن هنود آسيا.

هؤلاء العمال البيض العاطلون عن العمل كانوا القاعدة التى اعتمد عليها ترامب فى حملته الانتخابية وكانوا القوة الفعلية التى حققت فوزه على هيلارى مرشحة الشركات وقوى المال والأعمال. هكذا بدا الأمر كما لو أن السيد ترامب يحمل لواء الدفاع عن العرق الأبيض المهدد من جانب المهاجرين الملونين سواء جاءوا من أمريكا اللاتينية عبر المكسيك أو جاءوا من الشرق الأوسط. وقد اتضح لنا من خلال الجدل الذى دار حول هذه المشكلة أثناء الحملة الانتخابية أن للمشكلة أبعاد كثيرة خلافا لبعد المهاجرين مثل تقاعس الحزبين الديموقراطى والجمهورى عن الاهتمام بأحوال هذا القطاع المهم فى المجتمع الأمريكى، إلا أن تضخيم ترامب لمسألة اللون والعرق أشعل نارا كانت تحت الرماد، كان يعلم، بل كنا نعلم أن التفرقة والمشاعر العنصرية لم تنته بعد وبخاصة بعد عام أو أكثر من الاشتباكات اليومية تقريبا بين الشرطة وتجمعات من الشباب السود. مرة أخرى استعجلت قوى لها مصالح شتى إصدار أحكام مبكرة على ولاية باراك أوباما. الآن يقولون إنه، وهو أول رئيس أسود، سوف يترك التفرقة العنصرية فى حال أسوأ كثيرا عن حالها عندما استلم السلطة. كذلك سوف يترك العلاقات بين الأغلبية البيضاء والأقليات السمراء والصفراء فى وضع توتر لم تشهد البلاد مثله منذ عشرات السنين، وبالتحديد منذ سنوات الستينيات من القرن الماضى.

***

خطر على ذهنى أنه ربما كان ما يحدث فى أمريكا أمرا طارئا يزول بجهود المؤسسة الحاكمة فور أن تلتقط أنفاسها وتضمد جراحها وتلم أطرافها التى بعثرها الرئيس المنتخب حين تصدى لها منفردا ومجردا من معظم أسلحة الحرب الانتخابية المألوفة. بعدها وقفت أتأمل فى حال أوروبا، هذا المشروع الاندماجى الهائل. ليس بعيدا فى الزمن ولا فى الأهمية ولا فى التداعيات الاستفتاء الذى أجرته حكومة كاميرون وبنتيجته خرجت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى. فى خضم النقاش الدائر الآن حول علاقة الاستفتاء بانكسار العولمة توقفت عند ثلاث محطات. توقفت عند السبب الذى من أجله صوت الانجليز أو غالبيتهم للخروج من الاتحاد وهو رغبتهم فى تخليص سيادة بلادهم من هيمنة بيروقراطية الاتحاد، ورغبتهم فى وقف الهجرة التى استولت على الوظائف. توقفت ثانيا عند التصريحات والمواقف العنصرية من جانب قادة سياسيين من نوع تصريحات ومواقف ترامب، هؤلاء يزعمون أن الجنس الأبيض، ويقصدون الشعب الأصلى فى المملكة المتحدة، يكاد يفقد أغلبيته المطلقة فى بلاده منذ أن فتح حدوده للأوروبيين «الملونين»، ويقصدون شعوب شرق ووسط أوروبا. توقفت ثالثا عند المواقف المتشددة التى بدأ يتخذها أكثر من رئيس دولة فى أوروبا الشرقية مثل بولندا والمجر ورؤساء أحزاب أو حركات سياسية، كما فى ألمانيا وفرنسا والدنمارك وهولندا والنمسا، كلها مواقف تعبر بكل الوضوح عن شروخ فى مسيرة الاندماج فى الإقليم الأوروبى. بكلمات محدودة يبدو واضحا أنه كما أن اندماج الولايات المتحدة صار موضع شك، وكذلك مشاريع اندماج أمريكا الشمالية فإن استمرار مسيرة اندماج أوروبا، كما يظهر من الحال الراهن للاتحاد الأوروبى وحلف الأطلسى هى كذلك موضع شك.

***

عند الحديث عن حال النظام الإقليمى العربى لا أجد الكلمات المناسبة، فالشروخ صارت كسورا والانفراط وقع والأمة تبعثرت منذ أن فقدت غالبية قياداتها السياسية والفكرية هبة النطق.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي