العلم والتكنولوجيا والأخلاقيّات - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العلم والتكنولوجيا والأخلاقيّات

نشر فى : الأربعاء 16 نوفمبر 2022 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 نوفمبر 2022 - 9:25 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب نور الدّين شيخ عبيد بتاريخ 15 نوفمبر يؤكد فيه أن تطور العلم يصاحبه إشكاليات وتساؤلات أخلاقية عدة، لذا من الضرورى تشكيل لجان تضم مختصين من مختلف مجلات المعرفة لدراسة الجوانب المُختلفة لنتائج الأبحاث والتجارب.. نعرض من المقال ما يلى.
لم يسأل الإنسان نفسه يوما عن خير أو شرّ ما يُكتشف، فهو يبحث عن حلٍّ لمشكلةٍ أو إجابةٍ عن سؤال. ولكنّ الشرّ قد يكون فى الاستخدامات المُمكنة لهذا الاكتشاف أو تلك الإجابة. فالسكّين كما قال أرسطو هى أداة حياديّة، وظيفتها تقطيع أشياء يتداولها الإنسان من أطعمة أو أنسجة وخلاف ذلك، ولكنّ استخدامها للإيذاء هو عَيب ليس فيها وإنّما فى استخدامها. والاستخدامات هذه هى ما يجب أن تضبطه الأخلاقيّات فى الوقت المعاصر، نظرا لما لهذه الاستخدامات من إمكانيّة إقحام البشريّة فى أزماتٍ حادّة.
وبما أنّ الاكتشافات والإجابة على الأسئلة اليوم منوطة بالعِلم وما دار فى فلكه، لنلقِ إذا نظرة سريعة على العلم ووضْعه الحالى.
إنّ العِلم اليوم هو فى الواقع عِلم تكنولوجى، تدعمه المؤسّسات العلميّة العامّة أو المستقلّة أو الخاصّة، كما فى حال الشركات الكبيرة، لأسبابٍ علميّة واقتصاديّة وعسكريّة وسياسيّة أيضا، وإن كان الاقتصادى والعسكرى هُما المحرّكَيْن الأقوى فى الغالب. فالأوّل يبحث عن أسواقٍ أوسع، والثانى عن أسلحة أكثر فاعليّة.
• • •
يَضعنا تطوُّر العِلم التكنولوجى السريع أمام أزماتٍ لا سابق لها. فالطّاقة النوويّة، السلميّة منها والعسكريّة، تجعل المُجتمعات الإنسانيّة أمام خطر مُحدق، وبخاصّة فى ظروفٍ سياسيّة قلقة يعيشها العالَم منذ الحرب الباردة وحتّى اليوم. فمحطّتا تشرنوبيل وفوكوشيما اليابانيّة لهما آثارٌ مُقلقة باقية فى الذاكرة. كما أنّ التطوُّر الكبير فى عِلم الوراثة وتطبيقاته التكنولوجيّة يَضعنا إزاء أسئلة بلا إجابات واضحة. فهل إجراء بحوث على الأجنّة والتغيير فى مورثاتها لا يمثّل خطورة على النّوع البشرى؟ وهل التبرُّع بالحيوانات المنويّة لنساء يردْن الإنجاب، لرغبتهنّ الخاصّة أو لأنّ أزواجهنّ لا يملكون ذلك، هو أمر مقبول لا خطورة كامنة فيه؟
ومن بين فروع العِلم التكنولوجى الحاليّة التى تُثير قضايا كبيرة فى جوانب مُختلفة اجتماعيّة وسياسيّة وتضع الإنسان أمام تساؤلاتٍ عمّا سيئول إليه مستقبله أو كرامته على الأقلّ، من دون الإقلال طبعا من جوانبها المفيدة وهى عظيمة وكثيرة، هى علوم وتكنولوجيا السيبرانيّة من اتّصالات ومعلومات وآلات «ذكيّة» لها أن تكون ذاتيّة القيادة والحركة.
ففى هذا المجال، إذا تركنا جانبا آثار مراقبة الأفراد وانتهاك حريّاتهم التى تولّدها هذه التكنولوجيا، يُمكن النّظر فى قضيّة البيانات الضخمة، التى عند ربطها بعضها ببعض تنجم عنها معلومات هائلة، وبخاصّة عند توفُّر مكوّن الذكاء الصناعى فى اشتقاق هذه المعلومات. فإدارات بعض الشركات الكبيرة اليوم مثلا لا تستطيع مُنافَسة الذكاء الصناعى فى اتّخاذ القرارات التى تُبنى على كمّياتٍ هائلة جدّا من البيانات والمعلومات المخزَّنة فى حواسيب كبيرة، بما يَجعل مجالس هذه الشركات حبيسة ما «يقترحه» حاسوبها الذى لا يُمكن مجاراته فى قدرة سبر كميّات البيانات الهائلة.
المُثير للإعجاب والقلق فى الذكاء الاصطناعى هو قدرته على التعلُّم الذاتى من الحالات التى يتعرَّض لها وسرعة الحواسيب التى يستخدمها فى الوصول إلى نتائجه، ما يجعله يتفوَّق على الإنسان فى كثيرٍ من المجالات كما فى مُعالجة بعض الأمراض المدروسة جيّدا، كبعض أمراض السرطان مثلا، وتشخيصها ومُعالجتها. فقد قدَّم الذكاءُ الصناعى فى هذا المجال مساعدةً كبيرة وكان فى الكثير من الحالات أكثر دقّة من الطبيب. وهذه من التطبيقات الحسنة مبدئيّا.
تطوَّر هذا الذكاء إلى حدٍّ جَعَلَهُ مُستخدَما فى الطائرات المسيَّرة ذاتيّا (الدرون والروبوت القاتل)، التى لها أن تعمل فى مناطق جغرافيّة محدَّدة، وأن تَجمع معلومات كبيرة من الهواتف الجوّالة فى منطقة عملها، بحيث تتقاطع هذه المعلومات مع بعضها ومع معلومات مخزَّنة فيها لتُقرِّر إن كان صاحب جوّال من الجوّالات التى تُلتقط مكالماتها يُخطِّط لفعلٍ إجرامى أو لا، ولها أن تتصرّف أيضا بإطلاقها النار عليه. وهذه من نوع التطبيقات المُثيرة للقلق.
هذه المسائل، وغيرها كثير، تضعنا أمام تساؤلات عما ستئول إليه المُجتمعات الإنسانيّة إن تُركَ العلم التكنولوجى، وبخاصّة منتجاته، بلا رقيبٍ أو حسيب، وبخاصّة إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّنا لا نزال فى أوّل الطريق وأنّ المستقبل مفتوح على كلّ الاحتمالات. فمعارفنا فى آليّات عمل الدماغ هى فى تطوُّرٍ مُستمرّ، وكذلك التقدُّم فى علوم الحاسوب وفى تكنولوجيا الحواسيب التى تُنتِج حواسيب بسرعاتٍ متزايدة، وخصوصا إذا نجحنا يوما، وهو لا يبدو بعيدا، فى الوصول إلى الحاسوب الكمومى. هذا كلّه يمكن أن يَجعل من الذكاء الصناعى حقيقةً لها أن تُغيّر الكثير، بسبب قدرته على التعلُّم الذاتى وتعلّمه تفاصيل صغيرة جدّا عبر خوارزميّات التعلُّم العميق؛ فإذا أُضيف إلى ذلك ذاتيّة التصرُّف، فهنا قد يقع ما لا نرغب فيه أبدا.
• • •
كيف لنا مُواجهة ذلك إذا؟ يُمكن أن يكون ذلك على محورَيْن. أوّلا يجب أن تتدخّل المُجتمعات فى البحث العلمى وموضوعاته وإقرار ما يُمكن أن يُبحث فيه وما لا يُمكن. فهل يُمكن إجراء بحوثٍ علميّة على الجنين الإنسانى نفسه، أى إجراء تجارب عليه مهما كان نوعها، بما قد يُعرِّض الجنين للخطر، أو يؤدّى إلى تغيُّراتٍ فيه لا نعرف مدى خطورتها المستقبليّة (حَكمتِ الصين بسجْنِ الباحث الصينى هى جيونكى الذى قام بتغيير مورثات جنين توأم ليكون مُقاوِما للإيدز). أجابت معظم المُجتمعات بالنفى عبر مجتمعاتها المدنيّة وجامعاتها ومفكّريها. أى أنّ على المُجتمعات التدخُّل فى القرار، وعلى المخابر والباحثين إعلام مُجتمعاتها بأبحاثها ونتائجها بصورةٍ واضحة لا لبسَ فيها.
ثانيا، يكون التدخُّل عبر لجانٍ وطنيّة وعالميّة مختصّة، يُشارك فيها مختصّون من جميع صنوف المعرفة تقريبا، من اللّاهوتيّين إلى الفلاسفة والمفكّرين والعلميّين من أهل الاختصاص المعنىّ، وظيفتها دراسة الجوانب المُختلفة لنتائج الأبحاث المُمكنة فى موضوعٍ ما، عِلم الوراثة وهندستها مثلا، على قاعدة أخلاقيّاتيّة، وتقرّر فى ما إذا كان أمرٌ ما مُمكنا أو لا. فالموت الرحيم مثلا لا يقرِّره الشخصُ المَعنىّ أو أسرته فقط، وإنّما هيئاتٌ مختصّة تمنعه أو تُحدِّد ضوابطه. والذكاء الصناعى يُمكن أن يكون مُفيدا جدّا فى تطبيقاتٍ كثيرة وخطرا جدّا فى تطبيقاتٍ أخرى. لذا تقوم هيئاتٌ خاصّة بتأطير استخداماته، على أساس أن يكون للإنسان عموما السيطرة عليه دائما.
وما الأخلاقيّات إلّا الأخلاق فى أساسها، أى أنّها معنيَّة بالأفعال التى نقوم بها بنيّة الخير واستجابةً للقيَم الإنسانيّة، ولكنّها تُضيف إليها مكوّنا آخرَ يتمثّل بأنّ هذه الأفعال يجب أن تكون مقبولة من الجميع على أساسٍ عقلانى. فمُساعدة الملهوف هى من الأخلاق. أمّا الإجهاض مثلا فيُمكن قبوله أو رفضه بحسب السياق. والمُجتمعات التى تقبله لا تفعل ذلك كيفما اتّفق، وإنّما بشروطٍ وَضَعَها أطبّاء ورجال دين وفلاسفة وعُلماء اجتماع، ولا يكون إلّا بتوافُر هذه الشروط مُجتمعةً.
ولتحديد المُمكن من غيره فى نمط المسائل التى تحدَّثنا عنها، يُمكن الاستفادة ممّا قدَّمته الفلسفة على مرِّ قرونٍ عديدة. بدءا من البوذيّة والفلسفة الإغريقيّة، ثمّ فلسفة عصر الأنوار الأوروبى مُمثّلةً بالألمانى كانط ومبدأه فى الواجب الأخلاقى العقلانى، ثمّ الفلاسفة البريطانيّون الذين طوَّروا فلسفةَ النفعيّة والنفعيّة العقلانيّة، وانتهاءً بآخر مستجدّات فلسفة الأخلاقيّات عبر الألمانى هابرماس، الذى دعا إلى احترامِ معايير محدَّدة تهدف إلى بناء أخلاقيّاتٍ تقوم على الحوار، مُعترفةً بأنّ لكلّ مجالٍ قدرةً على التبرير والتفسير داخل حدوده الخاصّة من دون الادّعاء بالتعميم، وهذا يُتيح التفاهُم بين مختلف مجالات المعرفة والمصالح المتعدّدة. وبناء كلّ ذلك يكون بالتأكيد على العلاقة بين العقلانيّة والشرعيّة، وبوضع الشروط اللّازمة للاتّفاق على ما هو ضرورى عمليّا وما هو مُمكن موضوعيّا.
خلاصة القول هى ضرورة حضور الأخلاقيّات لضبْط مُنتجات العِلم التكنولوجى بواسطة المُجتمع الإنسانى مُستعينا بالأخلاقيّات، وبخاصّة عبر الحوار العقلانى الذى سيُفضى إلى وضْع ضوابط للبحث العلمى التكنولوجى ومُنتجاته.

التعليقات