كان النبأ الذى تناقلته وكالات الأنباء فى الأسبوع الماضى عن مقتل ستة من الأقباط لدى خروجهم من الكنيسة بعد صلاة عيد الميلاد، سيئا جدا ومقلقا جدا.
ذلك أن مصر لا عهد لها بسوابق من هذا النوع من الأحداث الدموية الطائفية. عرفت مصر أحداثا متفرقة، سواء فى القاهرة أو فى الإسكندرية، وخاصة فى منطقة الصعيد. ولكنها كانت أحداثا محدودة، وجرى تطويقها بسرعة، من دون أن تترك وراءها آثارا عميقة.
غير أن ما حدث فى نجع حمادى يؤشر إلى «أن وراء الأكمة ما وراءها». فإذا تصدّعت الوحدة الوطنية فى مصر ــ لا سمح الله ــ فأى وحدة وطنية سوف تسلم من مثل هذه الفتنة فى الدول العربية الأخرى التى يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون منذ حوالى ألف وخمسمائة عام؟
إن علامة استفهام كبيرة ترتسم حول حادث نجع حمادى، ذلك أنه بات من الصعب اعتباره حادثا منفصلا عمّا سبقه من أحداث. ثم إنه من الصعب كذلك إقناع المسيحيين العرب بأنه حادث منفصل عن سلسلة الأحداث الدامية التى تعرّض ويتعرّض لها المسيحيون فى العراق، والتى تمثلت فى نسف كنائس واختطاف أساقفة وقتل مواطنين عاديين على الهوية. وقد أشار البابا بنديكتوس السادس عشر إلى هذا القلق أثناء لقائه مع السفراء المعتمدين لدى الفاتيكان.
ومما «زاد الطين بلة» الحوادث الطائفية التى لا سابق لها فى العاصمة الماليزية كوالالمبور ،حيث أُلقيت زجاجات حارقة على تسع كنائس أدى إلى إضرام النار فى بعضها، وذلك على خلاف حول استعمال كلمة «الله» (جلّ جلاله) فى الأدبيات المسيحية. ورغم أن محكمة ماليزية أصدرت حكمها بحق المسيحيين فى استعمال الكلمة، فإن جماعات إسلامية متطرفة عارضت الحكم وعبّرت عن رفضها له بإحراق عدد من الكنائس.
****
فى الأساس أرسى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم موقفا مبدئيا ألزم به المسلمين جميعا فى عهده، وحتى قيام الساعة. ففى مطلع الدعوة الإسلامية وقيام نواة دولتها الأولى فى المدينة المنورة وجّه الرسول عليه السلام إلى مسيحيى نجران (فى اليمن) ــ الذين استقبلهم فى بيته وأحسَنَ وفادتهم وحاورهم كمسيحيين، وودّعهم كمسيحيين ــ وجه إليهم رسالة أثبتتها «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة» التى جمعها ووثّقها محمد حميد الله ونشرتها دار النفائس فى بيروت.. قال فيها: «ولنجران وحاشيتها، جوار الله وذمة محمد النبى رسول الله على أموالهم وأنفسهم وملّتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.. لا يغيّر أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته».
ولتعميم هذا العهد النبوى، جاء فى كتاب آخر له: «هذا كتاب أمان من الله ورسوله، للذين أوتوا الكتاب من النصارى، مَن كان منهم على دين نجران، أو على شىء من نِحَل النصرانية، كتبه لهم محمد بن عبدالله، رسول الله إلى الناس كافة، ذمّة لهم من الله ورسوله، وعهدا عهِده إلى المسلمين من بعده.. عليهم أن يَعوه ويعرفوه ويؤمنوا به ويحفظوه لهم، ليس لأحد من الولاة، ولا لذى شيعة من السلطان وغيره نقضه، ولا تعدّيه إلى غيره، ولا حمل مؤونة من المؤمنين، سوى الشروط المشروطة فى هذا الكتاب..فمن حفظه ورعاه ووفى بما فيه، فهو على العهد المستقيم والوفاء بذمة رسول الله. ومن نكثه وخالفه إلى غيره وبدّله فعليه وزره، وقد خان أمان الله، ونكث عهده وعصاه، وخالف رسوله، وهو عند الله من الكاذبين.. لأن الذمة واجبة فى دين الله المفترض، وعهده المؤكد.. فمن لم يرعَ خالف حرمها..ومن خالف حرمها فلا أمانة له، وبرئ الله منه، وصالحُ المؤمنين».
بل إن النبى محمدا صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تعهد فى نصّ رسالته النبوية «أن أحمى جانبهم ــ أى النصارى ــ وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح، حيث كانوا من جبل أو وادٍ أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل.. وأن أحرس دينهم وملّتهم أين كانوا، مِن بَرٍّ أو بحر، شرقا وغربا، بما أحفظ به نفسى وخاصتى، وأهل الإسلام من ملّتى وأن أدخلهم فى ذمتى وميثاقى وأمانى، من كل أذى ومكروه أو تبعة. وأن أكون من ورائهم.. ذابا عنهم كل عدو يريدنى وإياهم بسوء، بنفسى وأعوانى وأتباعى وأهل ملّتى. وأنا ذو السلطنة عليهم، ولذلك يجب علىّ رعايتهم وحفظهم من كل مكروه.. وأن أعزل عنهم الأذى فى المؤن التى حملها أهل الجهاد من الغارة والخراج، إلا ما طابت به أنفسهم. وليس عليهم إجبار ولا إكراه على شىء من ذلك، ولا تغيير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا سائح عن سياحته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شىء من بنائهم فى شىء من أبنية المساجد، ولا منازل المسلمين. فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله وحالَ عن ذمة الله. وأن لا يحمل الرهبان والأساقفة، ولا من تعبّد منهم، أو لبس الصوف، أو توحّد فى الجبال والمواضع المعتزلة عن الأمصار شيئا من الجزية أو الخراج..
ولا يُجبر أحد ممن كان على ملّة النصرانية كرها على الإسلام..«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن»..ويُخفض لهم جناح الرحمة ويُكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد.
وإن أجرم أحدٌ من النصارى أو جُنى جناية، فعلى المسلمين نصره والمنع والذبّ عنه والغرم عن جريرته، والدخول فى الصلح بينه وبين من جنى عليه..فإما مُنَّ عليه، أو يفادى به. ولا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملا، لأنى أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذى استوجبوا حق الذمام، والذبّ عن الحرمة، واستوجبوا أن يذبّ عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم، وفيما عليهم..
ولهم إن احتاجوا فى مرمّة بِيَعهم وصوامعهم، أو شىء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمّتها، أن يُرفدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله موهبة لهم ومنّة لله ورسوله عليهم».
ولقد التزم بهذا الموقف الدينى المبدئى والشرعى التأسيسى لعلاقات المسلمين بالمسيحيين الخلفاء الراشدون، ولعل من أشهر المواثيق التى تؤكد هذا الالتزام، العهدة العمرية لمسيحيى القدس.
****
ثم إنه إضافة إلى هذه الثوابت الدينية هناك موقف إسلامى عام يتمثل فى حديث للنبى محمد صلّى الله عليه وسلّم. فقد سُئل: مَن هو المسلم، فأجاب: «المسلم من سَلِمَ الناس(أى كل الناس بصرف النظر عن دينهم أو لونهم أو عنصرهم أو ثقافتهم) من يده ولسانه». فلا أذية بعملٍ (باليد) ولا أذية بكلمةٍ (باللسان). وهذا تشريع نبوى، والأحاديث النبوية هى المصدر الثانى بعد القرآن الكريم للشريعة الإسلامية الملزمة للمسلمين جميعا.
لا يفتقر الإسلام إلى الأسس والمبادئ التى تنظم علاقاته مع غير المسلمين وخاصة من أهل الكتاب.. غير أن ثمة جماعات إسلامية تحتاج إلى العودة إلى هذه الأسس والمبادئ والعمل بموجبها، حتى تُنظم هذه العلاقات على قاعدة الاحترام والثقة والمحبة المتبادلة.
****
قد تكون واقعة نجع حمادى قد انطلقت من شرارة حادث فردى. إن القضاء المصرى هو الذى سيبتّ فى ذلك..ولكن هناك مخاوف من استغلال تلك الواقعة الدامية للإساءة إلى الوحدة الوطنية فى مصر..
وقد تكون الوقائع المأساوية فى بغداد والموصل وكركوك وسواها من المدن العراقية، حيث تعرّض المسيحيون إلى الاعتداء والتهجير، جزءا من المشهد العراقى الدموى الذى صنعه الاحتلال الأمريكى..ولكن هناك دلائل على محاولة توظيف ما جرى ويجرى للمضى قدما فى إضعاف البنية الوطنية للعراق وتفتيته.
فما كان يجوز أن يُسمح للوضع فى العراق أن يتدهور طائفيا حتى يجد المسيحيون العراقيون أنفسهم بحاجة إلى الاستنجاد بالمسلمين لحمايتهم، وهو شعور يعكس حالة متقدمة من اللا ثقة بالمصادر الشرعية المسئولة عن توفير هذه الحماية لهم.
فحماية المسيحيين، وكذلك حماية المسلمين سواء بسواء، يوفرها أو يجب أن يوفرها القانون من حيث هو رمز لسلطة الدولة. ويوفرها العيش المشترك من حيث هو رمز للإرادة الوطنية. وتوفرها المواطنة من حيث هى تجسيد للتكامل بين سلطة الدولة والإرادة الوطنية. ولكن فى غياب القانون الذى يساوى بين المواطنين أو تغييبه، وفى غياب الإرادة الوطنية أو تغييبها، ومع انتهاك حقوق المواطنة، لا يستطيع أحد أن يحمى أحدا.
وفيما يحاول العراق استعادة سلطاته على أرضه بعد سنوات الاحتلال الأمريكى المدمر والتى دفع المسيحيون، كالمسلمين السنّة والشيعة وكالأكراد والتركمان، ثمنها غاليا من دمائهم وممتلكاتهم.. فقد كانت السلطة حاضرة فى ماليزيا من خلال القضاء الذى قضى بردّ دعوى بعض المتطرفين الإسلاميين باعتبار لفظ كلمة «الله» حكرا على المسلمين وحدهم، وسمح للمسيحيين باستعمال هذه الكلمة فى أدبياتهم الدينية.
كذلك كانت السلطة حاضرة فى مصر من خلال اعتقال مفتعلى الشغب فى نجع حمادى.. وإعادة فرض الأمن والاستقرار فى المنطقة.
ولكن ذلك كله لا يعنى أن الفتنة قد خمدت فى شمال العراق أو فى جنوب مصر أو فى العاصمة الماليزية. فأصابع الفتنة تتحرك باستمرار من إندونيسيا حتى نيجيريا.. ومن ديترويت فى الولايات المتحدة حتى ضالع فى اليمن.
ما يخمد الفتنة ويقطع أصابع محركيها الوعى الإسلامى بسماحة الإسلام، والالتزام بالقواعد الأساسية التى يؤكد عليها لتنظيم علاقات المسلمين مع بعضهم ومع الناس جميعا.