كان مقدرا لنا أن نستمع فى أقل من أسبوعين إلى ثلاث خطب رئاسية، لكل منها مغزى عميق، كان أولها الخطاب الذى قرأه الرئيس مبارك بعد ساعات من جريمة «القديسين» فى الإسكندرية، ومازالت صور الخطاب وسرعة إعداده وطريقة إلقائه تثير النقاش والجدل ومازالت أصداؤه تتجاوز حدود مضمونه وأهدافه. كان خطاب باراك أوباما الثانى فى هذا المسلسل من خطب رئاسية فى أعقاب مناسبات حزينة.
ففى مدينة تاكسون وخلال توديع جثمان نائبة اغتالها «مختل عقليا» ولكن مشحون بأفكار يمينية شديدة التطرف، وقف باراك أوباما يقدم قطعة أدبية من أروع الخطب التى أعدها بنفسه وهزها مشاعر الملايين من الأمريكيين وانتهزها فرصة ليعيد تأكيد انتمائه للعقيدة المسيحية.
وفى تونس، ومن داخل قصر الرئاسة، وبعيدا عن عيون الناس ألقى زين العابدين بن على خطابا باللهجة العامية نقله التليفزيون، وكان الدافع لإلقائه مواجهة غضب الجماهير الثائرة وسقوط عشرات القتلى فى عديد من المدن والقرى التونسية تحت وابل رصاص قوات الأمن. وكان الخطاب، كمعظم خطب الأزمات، فاجرا فى الكذب وممعنا فى الخداع وبارعا فى المراوغة. قال السيد الرئيس للشعب إنه قضى عمره فى خدمة الأمة التونسية ليكتشف فجأة أنه لم يفهم الشعب، وهو الآن يفهمه ويفهم أن له مطالب. يعترف أو يزعم رئيس الجمهورية أنه كان يحكم لمدة ربع قرن شعبا لم يفهمه ولم يعرف مطالبه. وقال إن الحاشية خدعته حين وفرت له معلومات خاطئة عن البلد وعن حاجات الناس وأحوالهم، وكرر على مسامع شعبه أنه عاش مؤمنا بالديمقراطية وحريصا عليها، ووعد أن لا يجدد ترشيحه للرئاسة بعد أربعة أعوام. وفى النهاية أصدر أوامره بعدم إطلاق الرصاص على المتظاهرين كما لو كان سيادته لم يصدر الأوامر بإطلاقها.
●●●
للخطاب الأخير دائما وقع خاص فى نفسى وأهتم به أكثر من غيره من خطب القادة. فهو الخطاب الذى يكشف أكثر من غيره عن حقيقة الوضع السياسى ونوايا الحاكم.
أذكر جيدا اللحظات الأخيرة فى حياة الملك حسين. حين عاد من الولايات المتحدة عازما على إزاحة ولى عهده الأمير الحسن وتوريث ابنه عبدالله ملكا من بعده.
كان الحزن مخيما على الأردن فالملك الذى سجد فى المطار يقبل أرضه، كان يعرف أن الشعب الأردنى قلق، لا يعرف ما سيحل به وببلاده فى اليوم التالى لرحيله. كان سرا معلنا أن الملك عاد إلى عاصمة بلاده بعد أن حصل على تعهدات بأن الأردن باق من بعده كدولة، وأن اختياره خليفته وإن بدا قاسيا على ولى عهده وجماعته وقطاع مهم فى الشارع الأردنى سيحظى بدعم الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل.
جلس إلى مكتبه وكتب رسالته الأخيرة إلى ولى عهده، وكانت فى الحقيقة رسالة إلى شعب الأردن لم يستطع إلقاءها بنفسه وهو فى حال الوداع بعد أن تمكن المرض من تغيير ملامحه ولونه وقوامه. تعمد أن لا يراه الناس وهو فى هذه الحال فتنطبع صورته وهو فى حال المرض النهائى فى أذهان الأجيال ماحية صورا أقدم كانت أزهى وباعثة على التفاؤل والأمل.
●●●
عاصرت فى تونس آخر أيام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة. تذكرته وتذكرتها وأنا أشاهد زين العابدين بن على يكذب على الشعب ويفترى عليه فى خطابه الأخير. بورقيبه شخصيه لا تتكرر كثيرا، فهو الرئيس الذى فهم شعبه بل فهم الشعوب العربية وحكامها كافة، أكثر من أى زعيم عربى آخر.
كان فريدا فى إعجابه بنفسه وبما حققه لتونس ومزهوا بحب «التوانسة» له. حكى لنا ثلاث مرات فى ثلاثة لقاءات بمكتبة بقصر قرطاج قصته مع «العسكرى» المصرى الذى كان يحرس حدود مصر عند السلوم ولم يتعرف على «سى الحبيب» المناضل التونسى ضد الاستعمار الفرنسى. كان بورقيه يحاول اللجوء إلى مصر وبالفعل استضافته مصر والجامعة العربية.
حكى عن جلساته المطولة فى الكازينو المطل على تمثال إبراهيم باشا فى ميدان الأوبرا، يشرب القهوة ويتصور نفسه وقد حل محل إبراهيم باشا على ظهر الحصان. وتحقق أمله إذ ما أن تولى الحكم فى تونس فى أعقاب التحرير حتى أقام تمثالا، نسخة طبق الأصل. لتمثال إبراهيم باشا فى مدخل الشارع الذى يحمل اسمه وسط العاصمة، وأمر بصنع نسخة مصغرة وضعها فى مكتبه بقصر قرطاج.
كان بورقيبه يتحدث إلى شعبه كل ليلة قبل نشرة أخبار الثامنة مساء. يتحدث من القلب وبتلقائيته المعهودة. فى واحد من هذه الأحاديث تحدث عن التفاصيل الدقيقة لقصة زواجه من السيدة الفرنسية التى كانت تكبره بعشرة أعوام أو أكثر، وفى حديث آخر أفاض فى شرح تفاصيل مشكلاته العائلية مع الماجدة وسيلة زوجته الثانية. كان يدعو شباب تونس من خلال هذه الأحاديث إلى التحرر من قيود التقاليد والاختلاط بالسياح الأجانب والمحافظة على إجادتهم اللغتين العربية والفرنسية. وكان يحثهم على السفر والهجرة.
كانت هذه الأحاديث اليومية فرصة لفضح من يفسد من رجال الأعمال، وكشف من يخطئ من وزرائه، ومعاقبة من يستغل قرابته له أو اقترابه منه لتحقيق مصلحة خاصة.
عاش بورقيبه حتى بلغ من العمر جانبه الرذيل. عندها شعر أن تيارا إسلاميا يستعد ليتولى الحكم من بعده، وكعادته منذ أيام فنجان القهوة فى ميدان الأوبرا بوسط القاهرة قرر أن يستفيد من التجربة المصرية، فجاء بالرجل القوى المدرب أمريكيا على أعمال الأمن، زين العابدين بن علي، وعينه وزيرا للداخلية، ثم رئيسا للوزراء.
كان بورقيبه قد بدأ يتصرف تصرفات غير سليمة وزادت شكوكنا فى سلامة قواه العقلية، وبخاصة بعد ما وصل إلينا عبر كثيرين فى بلاط القصر تفاصيل عن علاقاته بالمحيطين والمحيطات وتقلص عدد الساعات التى يكون فيها ذهنه قادرا على الاستيعاب.توقعنا عندئذ، وتوقعت عواصم أجنبية، أن يتدخل زين العابدين بن على ويقفز على منصب الرئاسة ويدخل قصر قرطاج العتيد.
●●●
غاب الزعيم القائد والرئيس الحبيب والأب الروحى للأمة التونسية، غاب الرجل الذى قاد تونس من الاستعمار إلى الاستقلال ووضع أسس نهضة حقيقية. غاب بعد أن حل محله فى منصب الرئاسة رجل آخر ولم يحل محله فى المكانة لدى الشعب. مضت ثلاثة وعشرون عاما وشعب تونس يعانى العسف والقمع تحت حكم بن على. أقام حكمه مستندا إلى شرعية الحزب الدستورى التونسى باعتباره الحزب الذى حقق الاستقلال، ومستندا إلى دعم الجيش الذى نجح بورقيبه فى عزله عن السياسة وجاء بن على يطالبه بالولاء التام كالولاء الذى منحه لبورقيه مضافا إليه ولاء رفقة السلاح باعتباره ضابطا سابقا من ضباط الجيش.
بدأ الرئيس الجديد عهده بشراكة مع سيدة بالغة الطموح وجماعة من رجال الأعمال اختار أشدهم فسادا، وعقد تحالفات وثيقة مع دول الغرب، تعهد من خلالها بمطاردة الإسلاميين والمساهمة مخابراتيا فى الحرب العالمية ضد الإرهاب والتجسس على شعوب وتيارات المغرب العربى والالتزام بعلاقة حسنة مع الإسرائيليين وفتح أبواب تونس لهم، كل هذا وغيره مقابل حماية دول الغرب للنظام التونسى ضد حملات الإعلام ومنظمات المجتمع الدولى والمبالغة فى تصوير إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية وتجميلها إلى حد التزييف وهو الأمر الذى بات واضحا أثناء الثورة التى اندلعت يوم قرر الشاب البوعزازى الانتحار فى مدينة سيدى بو زيد.
●●●
تابعت إنجازات زين العابدين بن على ونظام حكمه. عرفت جيدا إلى أى حد تدنى مستوى التعليم الجامعى والبحث العلمى، وتألمت لحال عديد المفكرين والمثقفين التونسيين الذين كانت سلطات الأمن تطالبهم بكتابة تقارير عن أدائهم فى المؤتمرات الخارجية يسجلون فيها كل كلمة نطقوا بها خارج البلاد. شاهدت الرعب فى عيون أصدقاء قدامى من تونس عندما كانت توجه إليهم فى الندوات أسئلة مباشرة عن حقيقة الأوضاع فى بلادهم.
●●●
تابعت عن قرب ما حققه اعتماد زين العابدين على أصدقائه فى باريس وواشنطن ولندن وعلى قمم الفساد فى بلده. حقق انحسارا فى مكانة تونس الإقليمية وبخاصة فى المغرب الكبير والعالم العربى والقارة الإفريقية، وحقق فى الوقت نفسه كراهية للحكومة فى أوساط الشعب، ورأيناها بعيوننا خلال الأيام القليلة الماضية، لكنه حقق ما هو أخطر وأشد هولا حين نجح فى غرس الكراهية فى نفوس الشعب ضد قوى الأمن وفى تلقين رجال الأمن الداخلى فى تونس الكراهية والاحتقار للنخب المتعلمة بل للشعب كافة. هذا أيضا رأيناه بعيوننا وشاهده العالم كله.