السؤال مشروع بعدما انتجت الحرب، فيما انتجت، تورّماً فى دور العامل الدينى والمؤسسات والمرجعيات الدينية فى الحياة اللبنانية. لم يقتصر الأمر على تحوّل المرجعيات الدينية إلى مرجعيات سياسية على حساب الزعامات السياسية، بما فى ذلك الدور المميز الذى تحتلّه فى الرقابة على حريات الرأى والتعبير والاعلام. وليس يتلخّص الامر بتسنّم علماء ورجال دين القيادة السياسية فى طوائفهم، ولا تعيين مواقع بروتوكولية متراتبة للمرجعيات الدينية فى الدولة. إلى هذا أدخِل التعليم الدينى الى المدارس الرسمية، وشهدت المحاكم المذهبية توسعا وانتشارا كبيرين، وما رافق ذلك من تضخم فى اعداد رجال وعلماء الدين عموما ونمو مصالح سلطة ومال لهم من جراء ذلك. ولسنا ننسى تفشى الرموز المعبّرة عن الهويات والانتماءات الدينية والمذهبية فى المجتمع وتزايد الاتكّال على الدين من اجل تجديد شرعية الطوائف وشد عصبها وانتقال ذلك إلى صلب الحياة الحزبية من خلال ظواهر مثل «التكليف الشرعى»... الخ.
لنقل ببساطة إن الدينى يقضم يوميا على حساب الطائفى والسياسى والاجتماعى والثقافى. ولم نعد أمام مجرد تدخل المؤسسات الدينية فى الدولة بل أمام طغيانها المتزايد عليها. بل إننا نقترب من غلبة متزايدة للمرجعيات الدينية على المرجعيات السياسية ولو فى الطائفة الواحدة.
●●●
عرفت الأسابيع الأخيرة، تطورين بارزين فى الاتجاه نحو هذا الإطغاء للدينى على المدنى والطائفى والسياسى بما هو نطاق الدولة ذاتها. الحادثة الأولى هى إقدام مفتى الجمهورية للطائفة السنية، الشيخ رشيد قبانى، الموظف لدى رئاسة الوزارة، على تهديد رئيس الوزراء، وسائر سياسى الطائفة بتطبيق حد «الردة والخروج عن دين الاسلام» عليهم إن هم وافقوا على الاعتراف بالزواج المدنى الاختيارى. ومع أن نائب رئيس المجلس الإسلامى الشيعى الأعلى، الشيخ عبد الأمير قبلان، تفادى اتخاذ موقف من الموضوع ودعا رؤساء الطوائف إلى تشكيل لجنة للبحث فى الزواج المدنى «بما لا يخالف الشرع ويرضى الله وينفع الناس»، فمعلوم أن لجنة كهذه، إن تشكّلت، لن تخرج إلا بموقف موحّد ضد الزواج المدنى. وللعلم فإن موقف الكنيسة المارونية ليس أقلّ تصلبا فى هذا الأمر، وإن كان يصاغ بمقدار لا بأس به من الشطارة. فإما أن تنتظر الكنيسة معارضة المرجعيات الدينية الأخرى، فتنضم اليها، كما كان الحال عندما طرح الموضوع فى عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوى وأحبطه الرئيس الراحل رفيق الحريرى. وإما أن تعلن الكنيسة المارونية موقفا مستوحيا من مطالعة للبطريرك بشارة الراعى، عندما كان مطرانا، ترفض القانون المدنى الاختيارى للأحوال الشخصية، على اعتبار انه يناقض مبدأ المساواة بين اللبنانيين، وتتحجج هذه المطالعة بأن الزواج المدنى يناقض المادة ٩ من الدستور، التى تشرّع الأحوال الشخصية الدينية، فيكون لسان حال «بكركى» إذ ذاك انها تفضل تعديل هذه المادة باتجاه فرض قانون مدنى وإلزامى للأحوال الشخصية. وهذا يعنى قطع الطريق عمليا على أى بحث أو أى تقدّم أو تدرّج أو تراكم فى هذا الموضوع.
●●●
يصدف أن الحادثة الثانية تتعلق بالبطريرك الراعى هى أيضا. وقد خرقت زيارته لدمشق، للمشاركة فى حفل تنصيب بطريرك الارثوذكس الجديد يوحنا العاشر اليازجى، سياسة النأى بالنفس الرسمية للدولة اللبنانية تجاه النزاعات السورية. لو اقتصر الأمر فى الزيارة على الجانب الدينى بما ينطوى عليه من كسر تقليد عدم زيارة احبار الكنيسة المارونية لسوريا، لهان الأمر. الحقيقة أن الزيارة من حيث التوقيت والمضمون كانت «زيارة سياسية بإمتياز»، باعتراف معارضيها ومؤيديها قبل ان يأتيها التكريس السياسى من نائب وزير الخارجية السورى الذى استقبل البطريرك. فى دمشق، تحدث البطريرك جهارا فى الشأن السورى الداخلى معلنا ان الاصلاحات لا تُفرَض من الخارج، وهو العليم بأن ملايين السوريين طالبوا بها فووجهوا بالقمع والاعتقال والقتل منذ الأيام الأولى لانتفاضتهم. وإذ أوصى البطريرك بأن تتم الإصلاحات « بالحوار والتعاون والتفاهم»، أردف أن المطالبة بالإصلاحات لا تساوى «دم انسان برىء يراق»، ما يحوى تلميحا، إن لم نقل تصريحا، الى أن السوريين الذين يطالبون بالإصلاحات يحاولون فرضها بالقوة بل بالعنف الدموى. ولم يكتفِ البطريرك بهذا الخروج العلنى عن الموقف الرسمى للدولة اللبنانية، بل أكد انه إنما يفعل ذلك بما هو ممثل للطائفة المارونية برمّتها.
●●●
هل حقا ان الدستور يلزِم اللبنانيين بقوانين الأحوال الشخصية الدينية؟
تنص المادة ٩ على أن «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون فى ذلك إخلال فى النظام العام وهى تضمن أيضا للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الاحوال الشخصية والمصالح الدينية».
الكلمة المفتاح فى المادة هى «الحرية المطلقة». والمفارقة أن «حرية مطلقة» تعنى، فى أى تفسير لها، حرية الاختيار المطلقة وحرية المخالفة المطلقة. فكيف أمكن تفسير «ضمان» الدولة «احترام نظام الأحوال الشخصية» على أنه يحرمها من أن يكون لها نظامها الخاص للأحوال الشخصية بما هى دولة؟ وكيف أمكن ترجمة الحرية والاحترام بالإلزام، إلزام اللبنانيين بنظام الأحوال الشخصية الطائفى والمذهبى دون سواه من أنظمة مدنية؟
●●●
لست احسب ان منظمى حملة الاعتراف بالزواج المدنى يظنون أن تزايد التزاوج بين اللبنانيين من مذاهب مختلفة سوف ينتج الطائفة الـ ١٩ أو انه سوف يقضى على النظام الطائفى. فمن حسن الحظ ان قبضة من ناشطى حملة «اسقاط النظام الطائفى» اعادوا الاعتبار، فى تظاهرة حاشدة الأسبوع الماضى، الى برنامج ديمقراطى متكامل لتجاوز الطائفية السياسية يطالب بتطبيق الدستور لاستحداث مجلس للشيوخ يمثل الطوائف ومجلس نيابى خارج القيد الطائفى. على أن يكون قانون الانتخاب خارج القيد الطائفى هذا قائما على التمثيل النسبى واعتماد لبنان دائرة واحدة.
ولست أحسب ان المشاركين فى الحملة يتناسون ان القبول الرسمى بتسجيل زواج مدنى على الأرض اللبنانية، وإن وفق قانون اجنبى، إن هو الا نقطة انطلاق لمعركة من أجل سن قانون اختيارى مدنى شامل للاحوال الشخصية يكرّس حرية اللبنانيين واللبنانيات فى اختيار احوالهم الشخصية، وهو الترجمة الفعلية والعميقة لـ«حرية المعتقد المطلقة» المكرّسة فى الدستور.
ولا يستخفن أحدٌ بعقولنا فيوحى أن قانونا مدنيا للأحوال الشخصية فى لبنان العام ٢٠١٣ سوف يكون منسوخا عن اى قانون آخر فى العالم، قديم او حديث. اننا نتحدث عن قانون يضعه المشرّعون اللبنانيون، المنتخبون والممثلون للسيادة الشعبية، فى مؤسستهم الدستورية، بناء على ما يرتأونه من أحكام تراعى تطور المجتمع اللبنانى وعاداته وتقاليده وتنوعه الدينى والمذهبى والآداب العامة وتخدم الخير العام.
سياسى وكاتب وأستاذ جامعى لبنانى
ينشر بالاتفاق مع جريدة السفير اللبنانية