قامت إسرائيل على امتداد الأيام الماضية بشن عدوان جديد على قطاع غزة، يعيد إلى الأذهان سلسلة جرائمها السابقة، خاصة تلك الجريمة البشعة التى ارتكبتها فى نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، والتى راح ضحيتها أكثر من 1500 شهيد فلسطينى، ناهيك عن الخراب والدمار الذى لحق بالقطاع. ليس بخاف أن إسرائيل تستهدف بعدوانها الجديد إصابة جهود السلام فى مقتل، وهى الجهود المتوقفة من الناحية الفعلية منذ فترة طويلة، وكذلك تخريب محاولات إتمام المصالحة الفلسطينية، بالإضافة إلى تحويل الانتباه بعيدا عن فشلها فى حمل الولايات المتحدة على الدخول فى مواجهة عسكرية مع إيران فى الوقت الحاضر.
●●●
لقد جاء البيان الذى أصدرته لجنة الشئون العربية بمجلس الشعب المصرى يوم 12 مارس الجارى، واعتمده المجلس بالإجماع، معبرا عن مشاعر كل مصرى تجاه العدوان الإسرائيلى الجديد ورفضه المطلق لما ترتكبه إسرائيل من جرائم.
ومع ذلك أجد نفسى مضطرا للتعرض إلى بعض النقاط التى تضمنها بيان لجنة الشئون العربية، وذلك من واقع تجربتى السابقة فى وفد التفاوض المصرى مع إسرائيل بشأن معاهدة السلام، وكذلك مشاركتى بعد ذلك فى مباحثات التطبيع، بالإضافة إلى مفاوضات إقامة سلطة الحكم الذاتى فى الضفة الغربية وغزة.
استوقفنى فى البيان النقاط التالية:
١ــ إن مصر الثورة لن تكون أبدا صديقا أو شريكا أو حليفا للكيان الصهيونى الذى نعتبره العدو الأول لمصر وأمتنا العربية.
٢ــ إن مصر سوف تتعامل مع هذا الكيان باعتباره عدوا.
٣ــ إن الحكومة المصرية مطالبة بمراجعة كل علاقاتها واتفاقياتها مع هذا العدو، وما تمثله من مصادر تهديد حقيقية للأمن والمصالح الوطنية المصرية.
٤ــ المطالبة بطرد السفير الإسرائيلى من مصر، وسحب السفير المصرى من تل أبيب، ووقف تصدير الغاز المصرى لهذا الكيان، وتجميد العمل باتفاقية الكويز، وشروطها المجحفة بالسيادة والمصالح الوطنية المصرية.
٥ــ تبنى خيار المقاومة بكل أنواعها وأشكالها.
٦ــ العودة إلى تفعيل سياسة المقاطعة العربية الشاملة للكيان الصهيونى وما يتعامل معه من شركات عالمية.
●●●
مثل ذلك البيان كان يمكن تصور صدوره فى غياب معاهدة للسلام فى 26 مارس 1979، أما وقد تم توقيع هذه المعاهدة، وبصرف النظر عن رأى البعض فيها، فالمتصور أن يحرص البيان على أن يأتى منسجما مع الالتزامات التى قطعتها مصر على نفسها بمقتضى المعاهدة المذكورة. ولعله من الضرورى الإشارة هنا إلى أن معاهدة السلام هذه قد تم إقرارها من قبل مجلس الشعب المصرى فى 10 أبريل عام 1979، كما تمت الموافقة عليها فى استفتاء شعبى عام تم إجراؤه فى 19 أبريل عام 1979.
فى تصورى أنه كان يجب التفرقة بين الإجراءات التى يمكن أن يُطلب من الحكومة المصرية اتخاذها انطلاقا من ممارساتها السيادية، وإدارتها لعلاقات مصر الخارجية، وبين المساس بالالتزامات التى سبق أن تعهدت بها مصر، وجرى تحصينها بالموافقة الشعبية كما سبق الإشارة (مجلس الشعب والاستفتاء العام).
فاستدعاء السفير المصرى من تل أبيب أمر يتعلق بممارسة السيادة الموقعة، وسبق لمصر أن لجأت إلى إجراءات مماثلة فى مناسبات سابقة، كما أن وقف تصدير الغاز لإسرائيل، وتجميد العمل باتفاقية الكويز يندرج أيضا تحت أعمال السيادة، إذا جاء ذلك محققا للمصالح الاقتصادية المصرية ولم يتعارض مع أية التزامات تعاقدية.
غير أنه من الضرورى التوقف حيال ما تضمنه بيان لجنة الشئون العربية بخلاف ما تقدم، وطرح التساؤل حول إمكانية اتهامنا بالإخلال بالتزاماتنا الدولية.
١ــ فقول البيان إن مصر سوف تتعامل مع إسرائيل (أو ما سماه البيان بالكيان الصهيونى) باعتبارها عدوا يتناقض مع منطوق المعاهدة التى قضت بإقامة السلام بين البلدين وإنهاء حال الحرب بينهما.
٢ ــ كما أن ما جاء بالبيان حول مطالبة الحكومة المصرية بمراجعة كل علاقاتها واتفاقياتها مع هذا العدو، قد يفسره الطرف الآخر، وكذلك الطرف الخارجى الداعم والمساند له على طول الخط، بأنه يعنى دعوة للتخلى عن معاهدة السلام، علما بأن مصر حرصت على التأكيد، وعلى لسان كبار مسئوليها بعد قيام ثورة 25 يناير، تمسكها الكامل بالتزاماتها الدولية. ولا يعنى هذا بالطبع إغلاق الباب أمام إمكانية إعادة النظر فى تلك الأحكام التى نصت المعاهدة على إمكان النظر فيها وتعديلها، مثل ترتيبات الأمن فى سيناء.
٢ ــ الدعوة لتبنى خيار المقاومة يعد تحولا جذريا عن التوجه المصرى الثابت نحو السلام، والحرص على حل كل المنازعات بالطرق السلمية. كما أنه من الضرورى الإشارة إلى ما تضمنته معاهدة السلام من تعهد كل طرف بكفالة عدم صدور فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية من داخل أراضيه ضد السكان أو المواطنين أو الممتلكات الخاصة بالطرف الآخر.
٤ ــ أما الدعوة إلى تفعيل سياسة المقاطعة العربية الشاملة للكيان الصهيونى، فيصطدم مع ما جاء بالبروتوكول المصاحب لمعاهدة السلام من اتفاق الطرفين على إزالة جميع الحواجز ذات الطابع التمييزى وإنهاء المقاطعة الاقتصادية.
هذا، وأجد نفسى مضطرا أيضا إلى الإشارة إلى واقعة اكتشاف مصر صبيحة يوم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. إن الولايات المتحدة وإسرائيل بصدد التوقيع على مذكرة اتفاق تتضمن التزامات أمريكية تجاه إسرائيل فى حالة خرق مصر لمعاهد السلام، ومن ذلك استعداد الولايات المتحدة للنظر بشكل عاجل فى اتخاذ إجراءات للتعامل مع هذا الموقف بما فى ذلك تعزيز الوجود الأمريكى فى المنظمة وتقديم كل المساعدات اللازمة لإسرائيل!
وكان من الطبيعى أن تثور ثائرة مصر فى وجه هذا الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى الذى تم بدون علم مصر، ووجه رئيس وزراء مصر ووزير خارجيتها فى ذلك الوقت الدكتور مصطفى خليل خطابين شديدى اللهجة إلى وزير الخارجية الأمريكى سايروس فانس بتاريخ 25 و26 مارس 1979 يؤكدان فيهما رفض كل ما جاء بمذكرة التفاهم المشار إليها، واعتبارها لاغية وباطلة ولا تلزم مصر بأى صورة من الصور. كان هذا هو موقف مصر حينئذ، أما مدى قناعة الولايات المتحدة بهذا الموقف فأمر مشكوك فيه.
●●●
أخيرا، أعلم يقينا أن ما ذكرته آنفا قد لا يلقى قبولا لدى الكثيرين ممن صدمتهم الأعمال الإجرامية الإسرائيلية، ولكننى على يقين أيضا بأن صدور ردود أفعال لا تستند إلى دراسة متأنية، ولا تقوم على تقدير سليم للعواقب، قد تأتى بعكس ما نرغب فيه أو نسعى إليه.