نَفْض الأيادى - أهداف سويف - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 10:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نَفْض الأيادى

نشر فى : الخميس 17 أبريل 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : الخميس 17 أبريل 2014 - 4:10 م

أمى، فاطمة موسى الله يرحمها، بتهف عليا كتير، ويمكن بتهف عليا أكتر فى شهر أبريل، كل ما بنقرب من عيد ميلادها. وأمى كانت، كما يعلم الذين يعرفونها، صريحة إلى حد الجرح، اللى فى قلبها على لسانها - وكانت تتمتع بخاصية مهمة من خصائص الماعت، وهى خاصية «التعامل الإيجابي». فالماعت، تلك السيدة المصرية الممشوقة ذات الريشة، التى مثلت كل القيم والتصرفات التى رأى فيها أجدادنا مفتاح الحياة القويمة، توصينا بأن نتعامل مع ما حولنا بإيجابية - أى نتفاعل فعلا مع ما يجرى حولنا، لا نمر مرور الكرام على تعاسة الآخرين، لا نكتفى بالاستماع إلى شكوى صديق بل نبحث له ومعه عن حل. فكانت أمى دائمة الانشغال بأمور واحتياجات الآخرين، وبالذات طبعا أمورنا نحن، أبناؤها وأحفادها والأقرب إليها، تدفع لنا بالمنشورات فى مجالات اهتمامنا، تبحث لنا عن المسكن وتتكفل بالمقدم المطلوب، تجدد اشتراكات النوادى والنقابات، تعتنى بأطفالنا فى غيابنا وتعمر الثلاجات بالجبن والحليب والبيض قبيل عودتنا وتحثنا حثا دائما فى مجالات حياتنا: فى الدراسة، فى العمل، فى الزواج فى الخلفة فى الكتابة.. وبالمقابل، كانت إذا غضبت تضرب بتعاليم الماعت عرض الحائط؛ فالماعت توصينا بألا نتحدث فى غضب، وأمى كانت ــ إذا فاض بها الكيل من أحدنا ــ لا تتحدث بل تصرخ: «خلاص. اتفلقى. آى ووش ماى هاندز أوف يو». وإذا زدنا زادت «يو كان جو تو هِلّ». وكان هذا دائما بالإنجليزية، فقد كانت أستاذة للأدب الإنجليزى وعاشقة له ــ وربما أيضا كانت الإنجليزية تترك مساحة أمان بشكل ما بين اللعنة وبيننا. فترجمة العبارة: «خلاص. اتفلقى. لقد نفضت يدى منك» ثم «ولتذهبى إلى الجحيم». والعبارة، كما ترون، تليق بمسرح يوسف بك وهبى، وهى أكثر درامية بالعربية عنها بالإنجليزية، ولكنها كانت فعالة على كل حال، فلم يكن أمام المغضوب عليها إلا أن ينزوى ويبتعد عن طريق أُمِّنا - إلى حين. طيب إلى أى حين؟ اكتشفت أنا، وكنت الأكبر فكان الاستكشاف مهمتى، أن طريق المقاوحة أو النقاش أو حتى الاستجداء لن يجدى بل سيقابل بإعادة تدوير الغضب. وبالتجربة اكتشفت الطريق الفعال؛ طريق الحاجة. أى أننى أسمح بمرور بعض الوقت (وفى الأغلب لم أكن أطيق الانتظار أكثر من ساعة) ثم أقترب فى هدوء لأقف بالقرب منها وأخبرها إن «بطنى بتوجعني» أو «إيدى اتجزعت» أو «راسى سخنة» أو «مش عارفة أحل مسألة» فى الواجب. لم تخب هذه الطريقة أبدا، فكان طبعها الميال إلى التعامل الإيجابى يضطرها إلى الاستجابة لطفلتها بالمساعدة أو إحضار الترمومتر وقياس الحرارة أو فحص اليد «المجزوعة».

تذكرت كل هذا حين وجدت الجملة تتكون فى عقلي: «خلاص بقى. ينفلقوا!» وكان هذا رد فعل على خبر يقول ان استيراد الفحم قادم لا محالة رغم الانتقاد الواسع، وأنه لا جدوى حتى من اعتراض وزيرة البيئة الآن فهى تعتبر موافقة ضمنيا حيث إنها كانت موجودة عندما صدق مجلس الوزراء على القرار. قلت طب ما بالمرة تدلقوا سم فى النيل وتستوردوا سرطان تحطوهلنا فى الأكل ــ ثم تذكرت: آه صحيح، مانتوا عاملين ده فعلا وشغّال من أكتر من عشرين سنة، فالمرحلة الجديدة بقى داخلين على الهوا ــ بالفحم. وتتوالى الأخبار ــ أخبار عن تعاقدات هندسية مع شركات أجنبية، وصفقات ومقاولات، وتحويل الفسطاط الأثرية إلى حديقة ـ فأصِل عند لحظة إلى نقطة أجدنى ــ إلى جانب «يووه، انفلقوا بقى» ــ مش فاهمة: هو النظام عايز إيه؟

يعنى لو النظام أساسا عايز يستغل بلدنا وينتفع منها، طيب ما الشمس موجودة والصحراء موجودة، يستثمر فى الطاقة الشمسية ويكون سباقا فى توليد الطاقة المتجددة ويستغلها برضه، ولمدة أطول كمان. طبعا ده مثال واحد بس، وللقارئ أن يفكر فى كل الإمكانيات والموارد المتعددة جدا لبلادنا وما يحدث لها ويتساءل: حتى إذا نحينا مطالب العدالة الاجتماعية جانبا وسلمنا بحتمية استغلال طبقة صغيرة لطبقات واسعة (والتنحية والتسليم بغرض الفهم والحوار فقط) لماذا يكون الاستغلال هكذا مدمرا وقصير النظر؟ ونعود إلى الأدب الإنجليزى وقصة الأوزة التى تبيض بيضا من ذهب، كل يوم بيضة، فيسلط البلطجى الكبير الحرامى ليقتلها ويحصل على كل ما بداخلها من بيض ذهبى، فيكون نقب الحرامى - بالطبع - على شونة. ثم تضىء فكرة فى ذهني: ماذا لو كان مطلب البلطجى ليس الذهب ولكن حرمان صاحب الأوزة الأصلى منه؟

نيل، وشمس، وطمى، وطقس، وهوا، وموقع افريقى آسيوى متوسطى عربى، وبدل البحر اتنين: سمك وجزر وشعاب مرجانية وشواطئ رملة بيضا، ومناجم ومعادن وتاريخ وحدود مستقرة من ٧ آلاف سنة، ومدن عامرة وتعدد ثقافى وتنوع سكانى ثلثاه من الشباب، وشعب فهلوى مبدع بيطلع لقمة العيش من الهوا - إزاى نبقى فقرا وشبابنا مش لاقى يعيش وأطفالنا بتشحت فى الشوارع؟ إزاي؟

النظام ذو الواجهة المباركية اضطرَّنا لعمل ثورة لإزاحته، ثم كانت الموجة الثانية لإزاحة النظام نفسه بالواجهة الطنطاوية، ثم الموجة الثالثة لإزاحة التجلى الإخوانى للنظام، وها نحن فى مسارنا الحلزونى المتصاعد لم نزل نسعى للتحرر - اليوم فى مشهد مضطرب تسمى فيه الأشياء والقوى بمسميات خادعة فليس أسهل فيه من الالتباس. أما ما لا لبس فيه ولا شك، وما يجعل من المستحيل الاستسلام لعبارة «لقد نفضت يدي»، هو أننا نواجه حربا على شبابنا؛ حربا بالاستحواذ على الموارد وتدميرها بما يعنى تدمير مستقبلهم، وحربا أكثر مباشرة بقتلهم وتعذيبهم وسجنهم. فإذا كان شباب المعادى قد حكم له بالبراءة فشباب الأزبكية وغيرهم لم يزالوا معتقلين. عمرو ربيع لم يزل مختفيا. شريف فرج ما زال فى سجنه بالإسكندرية. وكذلك عمرو حاذق ولؤى القهوجى وغيرهم. الأخبار تتواتر عن سِجن العازولى ولا تعليق من الحكومة. يوم السبت أجلت المحكمة النظر فى قضية محمد عبدالواحد وستة شباب آخرين لمدة ١٥ يوما جديدة ــ ومحمد عضو حزب الدستور وطالب بالفنون التطبيقية ويعمل مصورا لموقع «مواطن» وكان يقوم بتصوير اشتباكات جامعة القاهرة فى ١٢ يناير حين احتجزه الأمن، وهو محبوس من وقتها والسبت تم ترحيله والشباب الستة إلى سجن وادى النطرون.

وهذا الأسبوع أيضا قررت محكمة جنح مستأنف قصر النيل تأجيل نظر استئناف ١٥ شابا من مجموعة «أولتراس ثورجي» إلى ١٨ مايو مع استمرار حبسهم. والشباب محكوم عليهم بالحبس سنتين والغرامة خمسين ألف جنيه، وكان الأمن قد احتجزهم فى اليوم الثانى للاستفتاء الأخير على الدستور وقبل موعد انتهاء الاستفتاء بساعة، وكانوا فى حديقة يغنون أناشيد الأولتراس ومعهم الطبل ويوزعون الكوفيات الجديدة على المجموعة. وهم متهمون باقتحام ميدان التحرير ومنع المواطنين من المشاركة فى الاستفتاء والاعتداء على قوات الأمن ومقاومة السلطات والانضمام لجماعة الإخوان الإرهابية والمشاركة فى أحداث محمد محمود وخرق قانون التظاهر وإثارة الشغب وتكدير السلم والأمن العام. وكتبت ريهام، أخت رامى الشرقاوى شهيد أحداث مجلس الوزراء الذى قتله النظام فجر الثلاثاء ٢٠ ديسمبر ٢٠١١، كتبت هذا الثلاثاء تقول «زى النهارده من سنة، فى عيد ميلاد رامى، رجالة أولتراس ثورجى كانوا وسطينا بيهتفوا باسم رامى وبحقه. دلوقتى هما فى السجن واللى سجنوهم هم اللى قتلوا رامى. «الحرية للجدعان» لكن ريهام وأصدقاءها وأصدقاء رامى مستمرون فى الاحتفال بعيد ميلاده كل عام.

خالد مجدى طالب فى تانية ثانوى عنده ١٧ سنة وأحد معتقلى الدقهلية. ألقوا القبض عليه فى شهر أكتوبر الماضى من جوار مبنى محافظة الدقهلية أثناء عودته من أحد الدروس، واقتادوه إلى القسم ووجهوا له اتهامات عدة منها الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين وإثارة الشغب والتخريب والتعدى على ممتلكات عامة ونقلوه إلى سجن دكرنس. خالد من ضمن الموقعين على استمارة تمرد والمشاركين فى مظاهرات ٣٠ يوينو. تم تجديد حبسه ٦ مرات ثم حكم بحبسه ٣ سنوات.. جلسة استئناف حكم الحبس فى يوم ٢٢ أبريل المقبل.

عينة صغيرة. ليست واحدا على ألف مما يحدث. لكن مثالا واحدا، واحدا فقط، يكفى ليبين استحالة التراجع. التعامل الإيجابى سمة الثورة وسمة الثوار، وهم لن يتركوا أصدقاءهم وزملاءهم فى الزنازين، ولن يتركوا حق من مات، وحق من حبس ظلما. وهم كثيرون. وهم شباب. أما جيلنا، فأرى من بقى فيه محافظا على جانب من إنسانيته ومن كرامته يكرس نفسه ووقته وجهده لنصرة الشباب. أبدا لن ننفض أيادينا.

التعليقات