من باريس: مصر و فرنسا..دولتان أم حالتان؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 9:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من باريس: مصر و فرنسا..دولتان أم حالتان؟

نشر فى : السبت 17 يوليه 2010 - 2:49 م | آخر تحديث : السبت 17 يوليه 2010 - 2:49 م
لم تكن سهلة محاولات إقناع الضيوف الذين أسعدونى وقبلوا دعوتى أو إقناع المضيفين الذين خصصوا وقتا وجهدا لاستضافتى مع آخرين التطرق إلى قضايا أخرى غير موضوعات الفضائح والفساد وانهيارات منظومة القيم فى فرنسا.

ذهبت إلى فرنسا بينما أوروبا بأسرها تعانى تداعيات أزمة مالية حادة وعجز فادح فى موازنتها والعلاقات الألمانية ــ الفرنسية ترزح من جديد تحت ضغوط الشكوك التقليدية وبينما يستعر بين القيادات السياسية فى إيطاليا وفرنسا تنافس حاد على خفة الظل ووفرة الجاذبية للجنس الآخر وكفاءة التحكم فى وسائط الإعلام وتشويه صور المعارضين السياسيين. ذهبت وفى الذهن أسئلة حائرة عن حقيقة العلاقات بين مصر وفرنسا وجدوى هذه العلاقات بالنسبة لشعبى البلدين.

فشلت فى الإقناع معظم الوقت، ونجحت فى آخر الوقت.

استمرت أحاديث الفساد وسوء الإدارة والعجز فى الأداء. وزير الفرانكفونية استأجروا له طائرة خاصة تكلفت 130.000 يورو لأداء مهمة رسمية فى دولة من دول الكاريبى، بينما لا تتجاوز قيمة بطاقة السفر على طائرة تجارية 8000 يورو.

وزير آخر (كريستيان بلانسيه) أنفق من ميزانية وزارته مبلغ 12.000 يورو على شراء علب سيجار من النوع الفاخر الذى يدخنه بشراهة. وفضيلة عمارة، الوزيرة من أصل مغاربى والرئيسة السابقة لمؤسسة «لا عاهرات ولا ساقطات» قامت بتأجير أو إعارة شقتها الحكومية إلى شقيقها وعائلتها ليسكنوا فيها.

يحدث هذا وكثير غيره فى وقت صدرت فيه تعليمات السيد الرئيس بالتخلص من 10.000 سيارة حكومية و700 شقة ومنتجع لسكن الوزراء وكبار المسئولين. رائحة الفساد تزكم الأنوف، وتناقضات الحكم فى هذا الشأن تزيد زكامها.

فالرئيس الذى أصدر أوامره إلى فرانسوا فيون رئيس الوزراء بعمل كل ما من شأنه خفض النفقات الحكومية واستخدم لهجة حاسمة وغاضبة حين قال فى رسالته إلى رئيس وزرائه، «لا أريد أن أرى أموال دافعى الضرائب تسدد فواتير السيجار والطائرات الخاصة والشقق السرية والمنتجعات الشتوية والصيفية.

أريد أن أرى تقليصا فى عدد المرافقين للوزراء وأراهم يستخدمون القطارات فى التنقل داخل فرنسا»، ووجه بأن ينزل الرسميون الفرنسيون فى ضيافة سفراء فرنسا وقناصلها أو فى المبانى الحكومية فى الخارج وألا يستخدموا الفنادق الفاخرة، هذا الرئيس فات عليه أو على مساعديه أمر بالغ الأهمية.

لاحظ الفرنسيون كما تلاحظ شعوب كثيرة تعيش هذا العصر، عصر الفساد الأعظم، أن تعليمات السيد الرئيس لم تتضمن تخفيضات فى الإنفاق على قصور الرئاسة أو مصيف الرئيس فى بريجانسو وفى شاتو دى رامبوييه فى ايل دى فرانس. ولم تشر إلى الطائرة الجديدة الإيرباص A330 المخصصة لرحلاته، وثمنها يزيد على 220 مليون دولار. ويضيف نائب عن الحزب الاشتراكى إلى قائمة بذخ الرئيس الطلب الذى تقدم به ساركوزى لزيادة رواتبه بنسبة 170 بالمائة.

هناك غضب لا شك فى وجوده فى دوائر الفكر والثقافة. كثيرون يعتبرون نيكولا ساركوزى الضامن الأول للفساد والفاسدين وحامى مكاسبهم وداعم جهودهم. يتهمونه بأنه المسئول عما آلت إليه الأحوال فى فرنسا. قال لى أستاذ جامعى إن ساركوزى أنجز فى أقل من ثلاث سنوات حجم تخريب فى فرنسا لم ينجز مثله جميع الرؤساء الذين خدموا فى ظل الجمهورية الخامسة على امتداد ثلاثين عاما أو يزيد، وأجرى أحد الكتاب الصحفيين المرموقين مقارنة بين فريق الكرة الذى فاز عام 1998 وفريق الكرة الذى عاد بالفضيحة قبل أسبوعين.

قال إن الأول كان فى تشكيله وادائه وعلاقاته يعبر عن درجة لا بأس بها من الاندماج الاجتماعى فى فرنسا ويعبر أيضا عن توفر درجة كبيرة من التفاؤل بمستقبل فرنسا. الفريق الثانى الذى لعب فى جنوب أفريقيا عبر هو الآخر أحسن تعبير عن حالة فرنسا الراهنة: تشرذم دينى وعرقى، أجواء معادية للعرب والمسلمين، حالة عصبية ضد رموز المهاجرين من شمال أفريقيا وضد رموز العولمة فى قطاع المصارف والمضاربات وضد لاعبى كرة القدم الذين يحصلون على رواتب هائلة لا تقارن بما يحصل عليه المثقفون والأكاديميون الفرنسيون. أضف إلى كل هذا حال الإحباط الذى خيم على الفريق وحال الإحباط العام الذى يخيم على العاصمة الفرنسية.


سمعت جوبيه وزير الخارجية الأسبق يقول إن فرنسا اليوم أسوأ حالا مما كانت عليه عام 1997. قال إن سياسات الحكومة الحالية تسببت فى «بعثرة» الوطن وستترك فرنسا أمام تحديات أكبر ووضع أشد تعقيدا وعجز مالى هائل. آخرون ضموا صوتهم إلى صوت آلان جوبيه معترضين على أن يكون التدخل فى أعمال اتحاد كرة القدم إحدى مهام رئيس الجمهورية.

أذهلتنى دقة وثراء التعبير الذى استخدمه جوبيه لوصف نتائج سياسات ساركوزى «بعثرة الوطن». ألا تصف عبارة بعثرة وطن حال مصر فى شهورها الأخيرة وصفا دقيقا؟. ثم تشعر بمدى التدهور فى أوضاع فرنسا ومسئولية الرئيس ساركوزى شخصيا عن هذا التدهور عندما تسمع جان بيير رافاران رئيس الوزراء السابق يقول «سيكون مفيدا للرئيس أن يتكلم»، وعندما تقرأ تصريحا لمارتن أوبرى زعيمة الحزب الاشتراكى تقول فيه «توجد فى فرنسا الآن أزمة ثقة خطيرة».

لا تخفى على الزائر لفرنسا حقيقة أن شعبية رئيس الدولة منحسرة. القول بأنها بلغت درجة من التدنى لم تبلغه شعبية رئيس سابق للجمهورية قول لا مبالغة فيه. سمعت عن كراهية غالبية الفرنسيين لرجل سوف يتسبب فى أن يجعلهم يستمرون فى العمل إلى ما بعد سن الستين ليستحقوا تقاعدا كاملا. وسمعت عن غضب الطبقة السياسية، التى حكمت فرنسا على امتداد الأجيال، بسبب محاولته نسف قواعد هذه الطبقة واستبدالها بطبقة أخرى تكون من صنعه هو وليس من صنع مؤسسات النخبة.

المعروف مثلا أن الأكثرية العظمى من كبار رجال الإدارة والسياسة والدبلوماسية وأصحاب المناصب الكبرى تتكون عادة من خريجى المدرسة الوطنية للإدارة ENA، ولم يجر العرف على أن يستعين الرئيس وغيره من قادة الدولة بخريجى معاهد أقل مستوى أو سمعة، وهو بالضبط عكس ما فعله نيكولا ساركوزى الذى شجع إدارة الدولة على تجنيد كبار موظفيها من خريجى كليات ومعاهد أخرى أقل مستوى. لذلك لا أرى مبالغة فى تصريح مسيو جوبيه الذى يحذر فيه من انفراط مؤسسات فرنسا القيادية والسياسية وتدهور القيم. ونظرا لاهتمامى بانهيارات القيم فى بلدى وبلاد أخرى انتهزت الفرصة وسألت عن كوشنير وزير الخارجية الغائب معظم الوقت عن الصورة.

جاءنى الرد بأن ساركوزى انتزع اختصاصات كوشنير لنفسه يساعده كلود جيان وجان دافيد لوفيت. وجاءنى رد آخر من دبلوماسى مخضرم قال إن كوشنير كان مثل فقاعة هواء. وفقاعات الهواء لا تعيش طويلا وهى قد تخدع بعض الناس بعض الوقت ولكن لن تخدع كل الناس طول الوقت. أذكر جيدا صورا لكوشنير فى البوسنة يحمل الدقيق على ظهره ليطعم الفقراء وعندما أصبح وزيرا وقف ضد محاولات انقاذ الفلسطينيين المحاصرين وغيرهم من العرب المأزومين.

من ناحية أخرى، كان واضحا لى، ولغيرى، أن الاستعدادات للترشيح لانتخابات الرئاسة القادمة فى فرنسا بدأت مبكرا على غير العادة. وفى الواقع لم تكن عودة مسيو ديفيليبان رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق إلى الساحة السياسية سوى إعلان عن أن اليمين الفرنسى لم يعد يتحمل إخفافات ساركوزى. يكفيه أن الرئيس، بسياساته المتطرفة ضد الفرنسيين من أصول أفريقية وعربية وضد القضايا العربية بخاصة القضية الفلسطينية ومواقفه المتشددة ضد إيران ودعمه لسياسات التوحش الرأسمالى شجع تيارات التطرف اليمينى بشكل عام وجعل حزب جان ــ مارى لوبان أقوى مما هو فى الواقع، الأمر الذى ينذر بنزوح أصوات كثيرة من أحزاب اليمين إلى جهة اليمين المتشدد فى الانتخابات القادمة.

كثيرا ما تكون سخرية الشعوب مرة. قالت لى سيدة فرنسية «ندفع ثمن عقدة ساركوزى بسبب قصر قامته. نحن أمة لم نحترم إلا الزعماء طوال القامة. نعتقد، وربما عن حق، أن القامة الطويلة للزعيم ترفع قامة الأمة. ديجول كان طويل القامة وهكذا كان جاك شيراك ومن قبله جيسكار ديستان وإن ليس بنفس الطول. والآن يستعد ديفيليبان وهو أيضا فاره الطول بالإضافة إلى اعتماده على تاريخ مشرف فى المواقف الدولية فى مواجهة الولايات المتحدة وانحيازه إلى حقوق الأقليات فى فرنسا». ختمت الأستاذة كلامها بالقول بأن ساركوزى أخطأ حين سلم حق اختيار أصدقاء القصر والبلاط المقربين وبالتالى المؤثرين فى السياسة إلى السيدة كارلا برونى تيديسكى. المعروف أن كارلا لا تخفى تفضيلها صحبة هؤلاء الحواريين الذين يلتفون حولها على كبار المثقفين والمستشارين. هؤلاء يقال إن الرئيس يلتقى بعضهم ثلاث مرات فى الأسبوع، أى فى الليالى التى يبيت فيها فى بيت السيدة كارلا.

حملت معى إلى باريس أسئلة عن التغيرات التى طرأت على السياسة الخارجية الفرنسية فى عهد حكومة الرئيس ساركوزى. ذهبت وأنا أعرف مسبقا أن الفرنسيين فى أحوال عادية يعشقون الحديث عن السياسة الخارجية.

تصادف هذه المرة أننى كنت هناك وحالة الحنين مستعرة وحديث الأمجاد يعلو فوق أى حديث كرد فعل مفهوم على حال الإحباط وزحمة الفضائح. ولما كنت حريصا على الاستماع إلى آراء فرنسية فى مسيرة السياسة الخارجية لحكومة الرئيس ساركوزى سعيت لتدبير لقاء فطور مع شخصية لامعة فى دوائر صنع السياسة الخارجية.

قضينا الدقائق الأولى نتبادل الرأى حول حرارة الجو التى بدت مرتفعة على غير عادتها فى ساعة مبكرة من ساعات الصباح، وقبل أن ننتهى من شرب عصير البرتقال المثلج وننتقل إلى القهوة الفرنسية التى أعرف عن ثقة وتجربة وإدمان أن قهوة أخرى لا تعادلها فى النكهة أوالقدرة على تنشيط الذهن، وفى نفس واحد طلب كل منا من الآخر تقديم تفسيره لظاهرة الزيارات الرسمية المتكررة التى يقوم بها الرئيس المصرى لفرنسا.

قال رفيق الإفطار إنه لم يحسبها حسابا دقيقا ولكنه يظن أن الرئيس المصرى زار فرنسا عددا من المرات ربما أكثر من أنجيلا ميركل، مع العلم بأن هناك اتفاقات مكتوبة وعرفية تفرض على زعيمى ألمانيا وفرنسا الالتقاء مرات عديدة خلال العام. ولا شك أنه يوجد بين ألمانيا وفرنسا من مشكلات جوار ودفاع واقتصاد ومصالح أوروبية واستراتيجية دولية وقضايا تكامل أوروبى وهجرة ما يبرر عقد هذه اللقاءات العديدة بين المسئولين الألمان والفرنسيين على اختلاف مراتبهم وليس فقط على مستوى القيادة الأعلى. يعرف صديقى وأعرف أنا أيضا أنه لا توجد بين مصر وفرنسا من القضايا والمشكلات ما يستدعى هذا العدد من اللقاءات على مستوى الرئاسة، وهو عدد غير مسبوق فى العلاقات العادية بين الدول بخاصة إذا لاحظنا أنه لا تعقد اجتماعات على مستويات أدنى مما يعنى أن ما يدور فى لقاءات القمة لا يستدعى أو يستحق المتابعة.

غريبا كان أمر هذا الصديق الفرنسى. أعرف الكثير عن سعة اطلاعه وأسمع أكثر عن تأثيره الواسع فى صنع بعض سياسات فرنسا الخارجية وتأكدت من كثافة شبكة اتصالاته فى الداخل والخارج، ومع ذلك وجدته يقف حائرا أمام سؤالى عن ماهية الموضوعات التى يناقشها الرئيسان أو يتفاوضان عليها ويقرران أمرا لا نعرفه بشأنها. يعترف بأن هذا السؤال تصدر قائمة الأسئلة التى كان ينوى طرحها خلال لقائنا وكان يأمل فى أن يجد عندى إجابات عنها، قال إنه بحث ونقب ولم يجد، بل إنه لم يعثر على عائد ملموس ومؤثر فى قوة الدولتين ومكانتيهما وتأثيرهما داخل المحيط الإقليمى لكل منهما نتيجة هذه اللقاءات المتكررة. كل ما خرج به هو أن نفوذ الدولتين حسب معايير كثيرة ينحسر وأن الرئيسين حسب معايير أيضا كثيرة يواجهان مرحلة لعلها الأسوأ فى عهد كل منهما.

انتقلنا إلى تفاصيل قضايا فى السياسة الخارجية الفرنسية. تحدثنا عن تدهور موقف فرنسا فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى فسمعت منه عبارة ترددت فى أحاديث كثيرة جرت الليلة السابقة، قال إن السياسة الخارجية الفرنسية خاضعة الآن لنفوذ اليهود أكثر من أى مرحلة سابقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

إن ساركوزى نفسه لا يخفى إيمانه بما تمثله إسرائيل وسخطه على العرب والفلسطينيين، ولا أقول كراهيته لهم وهى الكلمة التى سمعتها من أكثر من شخص، سألت إن كان صحيحا أن بعض المتنفذين فى الدائرة الضيقة التى تضع القرارات المتعلقة بالشرق الأوسط يقول أن «النظام المصرى يحمى لنا إسرائيل من غضب الشعب المصرى وغيره من الشعوب العربية»، هز رأسه موافقا ومثنيا.

لم أقل له إنها شبيهة بالجملة التى يرددها المثقفون فى بيروت ودمشق وعمان وبين القيادات المصرية المغتربة فى أوروبا وأمريكا. أشهد أننى احترت فى تقرير إن كنت سعدت أم حزنت بتعليق لصديق فرنسى قال فيه.. «على كل حال.. نحن نحسدكم على مساحة الحرية التى تتمتعون بها فى بلادكم. أنتم كإعلاميين وأكاديميين تستطيعون انتقاد إسرائيل علانية فى مصر أما نحن فلا نستطيع».

ومع ذلك سمعت انتقادا للسياسة الخارجية المصرية من ضيف انضم متأخرا إلى مائدة الإفطار وله علاقة بدوائر الإعلام الفرنسية. قال الضيف إنه يسمع من أصدقاء له فى الخارجية الفرنسية الشكوى من أن انسحاب مصر من العمل الإقليمى فى الشرق الأوسط أضاف عبئا إلى أعباء كثيرة تقع الآن على عاتق السياسة الخارجية الفرنسية.

اختار الضيف نماذج لهذه الأعباء منها بروز دور لإيران لم تكن لتستحقه لولا غياب مصر، ومنها أيضا أزمات السودان والقرن الأفريقى المتلاحقة وحال الفزع شبه الدائم الذى تعيش فيه دول الخليج وشعوبه، ومنها أحوال المشرق العربى مما اضطر فرنسا إلى مضاعفة جهودها وتدخلها فى لبنان ودفعها لدعم الدور السورى فى شئون المنطقة.

أضاف الضيف «ولا أخفيك أن عددا من المسئولين الفرنسيين القريبين من الرئيس سعداء لأن انشغال تركيا بالشئون العربية وتوتر علاقاتها بإسرائيل أثبت قوة حجة فرنسا للحيلولة ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى»، فالاتحاد لن يسمح بانضمام دولة تعادى إسرائيل. إنه الشرط غير المعلن «فى وثائق الاتحاد». لذلك بدت مألوفة تحية أحد الساسة الفرنسيين التقيته معه على العشاء فى اليوم نفسه حين بادرنى أثناء ترحيبه بالقول «هنيئا لكم بتركيا، نشكركم لأنكم أتحتم لها الفرصة لتكشف حقيقة نواياها تجاه إسرائيل.

كانت فرصة ذهبية عرفنا من خلالها أن تركيا لا تصلح إطلاقا لعضوية الاتحاد الأوروبى». قلت ولكنها عضو فى الناتو وستبقى عضوا. جاء الرد سريعا «الناتو أمر مختلف، لأنه يجمعكم، يهودا وعربا ومسلمين، بنا».

هكذا قادتنى الظروف، ولكن فى دولة غير عربية، لأسمع انتقادا للسياسة الخارجية المصرية التى تسببت فى انعزال مصر وانحسار دورها الإقليمى والدولى. مرة أخرى أطأطئ الرأس خجلا متخيلا مسئولا مصريا كبيرا يجلس فى مقعدى مستمعا إلى رأى الساسة الفرنسيين فى السياسة الخارجية المصرية فيتصدى لهم بالرد الذى صار مألوفا ومقززا فى آن واحد «هل تريدون منا أن نحارب».

أتمنى لو أن المسئولين فى مصر عن صنع السياسة الخارجية فكروا فى صياغة رد آخر يحل محل الرد المهين والفارغ من المضمون الذى صار موضوعا لسخرية واسعة. سمعت طالبا يدرس العلاقات الدولية فى إحدى جامعات أوروبا يقترح من باب الهزل تعديل الرد ليصبح على النحو التالى «الدول تحقق مصالحها وتسوى صراعاتها الدولية عن طريقين لا ثالث لهما، طريق الحرب وطريق الانعزال». ويضيف متشبثا باقتراحه أنه إذا أخذنا به فسيكون إضافة لعلوم السياسة والصراع وحكمة تصلح لعصر قادم لا تقوم فيه بين الدول علاقات ولا تنشغل الحكومات برسم أو صنع سياسات خارجية. عصر لن تنشأ فيه حاجة إلى وزارات للخارجية.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي