أى منا يستشعر ما يجرى من تخطيط المدينة، ويلمس ما يحدث من تطوير وتغييرات وتعديلات وما يستحدث من مدن وتجمعات عمرانية هنا وهناك، ولكن ربما لا يلمس بشكل مباشر أو واضح ما يحدث على مستوى الإقليم الذى يعيش فيه، فقد يصعب عليه الربط بين مشروع فى مدينة ما وآخر فى مدينة أخرى، أو يستوعب أثر تطوير أو تخطيط مدينة على المدن المجاورة لها، وكلما كانت هناك علاقات ترابط وتبادل منافع بين مدن وبعضها فإنها بذلك تشكل فيما بينها إقليما، فمدينة أكتوبر مثلا يربطها إقليم عمل بمدينة الجيزة فهناك مصانع فى أكتوبر يعمل بها موظفون من الجيزة، فلو لم يكن هناك طرق سهلة ومواصلات متوفرة تربط بين الجيزة وأكتوبر والمسافة بينهما مناسبة لرحلة العمل كان الباحثون عن وظائف توجهوا إلى أماكن أكثر سهولة فى الوصول إليها، وأصبحت تلك الأماكن تشكل إقليم عمل، كما أن هناك إقليم خدمات فمثلا كثيرون فى وسط الدلتا يتوجهون إلى مدينة طنطا لطلب خدمات غير موجودة فى مدنهم، هذا يعنى أن طنطا لها إقليم خدمات.
ولما كان لكل مدينة إقليمها الذى تتصف وتتميز به فإن هناك مدنا تتكامل فيما بينها بما تقدمه لبعضها، فمدينة تقدم خدمات والثانية تقدم وظائف وفرص عمل وثالثة تتميز بالسكن، فتشكل فيما بينها إقليما متكاملا، وبالتالى هو أقوى من الإقليم المعتمد على مدينة واحدة، وعندما توضع الأولويات والمجالات الأكثر تأثيرا تظهر خريطة الأقاليم الأكثر تكاملا فيما بينها مثل إقليم القاهرة الكبرى الذى يضم القاهرة والجيزة وأجزاء من القليوبية، وإقليم شمال الصعيد الذى يضم بنى سويف والفيوم والمنيا وغير ذلك من أقاليم، وتلاحظ أن تلك الأقاليم لا تلتزم بالضرورة حدود محافظة لأن تلك حدود إدارية وهى أحد أنواع الأقاليم وتسمى الإقليم الإدارى، وعليه قد يكون الإقليم محافظة أو محافظات أو أجزاء، أو دولة كاملة أو دول أو أجزاء من دول أخرى مثل إقليم الأكراد فذلك إقليم عرقى، كما أن هناك إقليما اقتصاديا مثل إقليم دول أوروبا أعضاء الاتحاد الأوروبى، وإقليما جغرافيا مثل إقليم دول حوض النيل، وإقليما سياسيا مثل الإقليم الذى يربط الولايات المتحدة الأمريكية باتفاقية فيدرالية ليمثلها أمام العالم وزير خارجية واحد وينظم الدفاع عنهم جيش واحد وإن كان هناك استقلالية لكل ولاية فى أمورها الداخلية فهناك وحدة فيدرالية تجمع بينها فيما يتعلق بالسياسة والدفاع والاقتصاد.
***
ومن ذلك فإن كل إقليم له أهدافه التى يسعى لتحقيقها فى إطار العوامل التى شكلت وحدته، فالأكراد مثلا الذين يشكلون عرقية واحدة ويجمعهم إقليم عرقى اجتماعى واحد يتمنون أن يحققوا وحدة سياسية لهم تعبر عن قوميتهم وإقليمهم العرقى سياسيا، وكما أنه من السهل على الدولة وضع خطط لتنمية أقاليمها الداخلية والعمل على النهوض بالدولة ذاتها كوحدة إقليمية سياسية اقتصادية اجتماعية إلى آخر ما يربط أبناء الوطن من علاقات ترابط وتلاحم، فإن ذلك يحتاج إلى جهد ووعى كبيرين عندما يكون الإقليم دوليا أى يجمع بين أكثر من دولة، على سبيل المثال إقليم دول حوض النيل هو إقليم جغرافى يضم الدول التى يجرى فيها نهر النيل وبالتالى فإن الإقليم الذى يجمعها هو ما يتأسس على مدى ما تستفيد به من نهر النيل وتتعاون على تنميته وحسن استغلاله والعمل على استدامة بيئته وتعظيم الفائدة منه، وبالتالى لابد أن تجمع تلك الدول رؤية موحدة كإقليم واحد تنصب أهدافه المشتركة على حياة النهر والاستفادة منه، ولابد أن تترجم تلك الرؤية إلى استراتيجية موحدة يوضع لها تخطيط إقليمى يحققها ويترجمها إلى سياسات تطبق فى كل دولة طبقا لدورها المرسوم والمحدد لها مشاركة فى تنمية النهر كما تتشارك فى الاستفادة منه.
فإن تلاشت تلك الرؤية الإقليمية المتكاملة وفقدت الاستراتيجية الموحدة أهم مقوماتها، وغاب التخطيط الإقليمى المعبر عن تلك الاستراتيجية، فبالتأكيد تبدأ الرؤى القومية والاستراتيجيات المحلية فى التنامى ويوضع التخطيط للأقاليم المحلية على حساب الإقليم الأشمل المتكامل، والعكس صحيح فإن لم تسع دول الإقليم لوضع تخطيط عملى معبر عن استراتيجية موحدة ويخرج ذلك التخطيط بسياسات واضحة ومحددة ترسم واجبات وحقوق كل دولة، بات من المؤكد تعاظم الرؤى المحلية والتخطيط الإقليمى المحلى وبالتالى تجاهل الحقوق والواجبات الدولية، إذا من الذى يضع التخطيط الإقليمى الأشمل المتكامل؟ أين تلك الهيئة التنفيذية المعنية بذلك الإقليم؟ هنا تكمن المشكلة التى تعانى منها الرؤية والاستراتيجية، فقد بدأ التوجه للتعبير عن وحدة الإقليم ورؤيته تجاه استغلال النهر عام 1993 «بصيغة تعاون» خرجت «بأجندة عمل» مشتركة، ثم ارتقى التعاون عام 1997 ليصير عبر «منتدى حوار» أعقب ذلك اجتماع لوضع «آلية مشتركة» للعمل من خلالها، وأخيرا تم التوقيع عام 1999 على «مبادرة» حوض النيل، وكأن الدول تتحرج من بعضها أن تمد اليد لتتعاون بقوة كما هى الأقاليم الجغرافية الاقتصادية الأخرى فى العالم، وتتلمس الكلمات فى خجل ليتقدم التعاون من صيغة إلى أجندة إلى منتدى ثم آلية فمبادرة، دون إعلان منظمة أو هيئة لها كيان اعتبارى تنظم عمل الدول على النهر وتضع التخطيط الإقليمى الذى يحقق للدول المشتركة طموحاتها وتتبنى الرؤية والاستراتيجية الموحدة الكفيلة بإنماء النهر ودوله.
***
وعلى صعيد آخر هناك دول تفرض كلمتها على أجزاء جغرافية ليست من حقوقها ممارسة الإقليمية السياسية عليها غير أنها تنفذ تخطيطا إقليميا يحقق أهدافها، مثلا الكيان الإسرائيلى تتعامل مع كامل أجزاء فلسطين والجولان على أنها إقليم سياسى اقتصادى واحد شاملا ذلك القطاع والضفة وغور الأردن، وتعتبر إسرائيل تلك المناطق من وجهة نظرها أجزاء من إقليم واحد متكامل ذات وضعية خاصة لظروف مؤقتة أو استثنائية، والواقع الذى تعمل من خلاله هو العمل على مطابقة الإقليمية الجغرافية فى حدودها الطبيعية مع الحدود السياسية ذلك الواقع الذى يعطى الرؤية قوتها وقناعتها على الأرض، وقد وضعت إسرائيل بعد حرب 1967 تخطيطا إقليميا ارتكز على ضرورة اعتبار خط الدفاع الشرقى للدولة هو وادى الصدع العظيم الذى يبدأ من مرتفعات الجولان مرورا بغور الأردن حتى الطرف الجنوبى من سيناء عند شرم الشيخ مع ضم أجزاء الشريط التضاريسى على طوله لدواعى الدفاع، وقد عمل على تنفيذ ذلك التخطيط الإقليمى ييجال ألون وزير الزراعة آنذاك وحاييم بارليف صاحب المقترح، وعلى الرغم من استعادة مصر أراضيها إلا أن المخطط الإقليمى تم تطويره وظل ينفذ بكل من الجولان وغور الأردن وطبقت نظرية ما يعرف بخلق «الصحراء المزهرة» التى أولتها إسرائيل رعاية فى تزويدها بالمياه الوفيرة وعمل مشروعات لاستغلال المياه الجوفية وخطط الإرشاد الزراعى وتنمية المحاصيل وتقديم مساعدات وقروض للمزارعين، وكان ذلك له بعد دفاعى وآخر سياسى تبدو فيه إسرائيل على مستوى الإعلام الدولى دولة راعية لظروف الفلاحين وساعية للتنمية الاقتصادية، وتداخلت التجمعات العمرانية التقليدية للمزارعين مع مستوطنات الكيبوتز والموشاف الزراعية بشكل لم يلق اعتراضات فعلية على المستوى المحلى خاصة أن البرامج التنموية شملت الجميع، ثم بدأت تتبدل السياسات لتصير إقليمية مهيمنة إطار تحقيق المستهدف الدفاعى والاقتصادى من التخطيط الإقليمى بعيد المدى الذى وضع أواخر السيتينيات.
***
وفى عودة إلى مجريات الأمور بين دول حوض النيل، والبحث عن المسئول عن وضع تخطيط إقليمى والمبادرة للسعى نحو تأسيس تنظيم له شخصية اعتبارية يتولى إبراز الرؤية المشتركة فى أبعادها التاريخية والجغرافية والاقتصادية لدول الحوض ويضع استراتيجية موحدة، فلا أجد غير أكثر الدول حساسية وتضررا وهى فى ذات الوقت أكثرهم وعيا وحضارة وأرقاهم امتلاكا للعقول المفكرة والتكنولوجيات المناسبة، رؤية تمثل نواة يجتمع عليها دول الحوض ويجدون فيها بلورة لما بدأت به «مبادرة دول حوض النيل» وتخطيطا فى ملامحه المبدئية رسالة طمأنينة لبداية عهد تتوازن فيه الطموحات المحلية فى إطار تحقيق الأهداف الإقليمية لدول حوض النيل، إن مصر بثقلها التاريخى والحضارى ودورها المشترك فى الاتحاد الإفريقى ودول الكوميسا وما أكدته سياساتها من حكمة التحرك الدولى إزاء قضية سد النهضة، تؤهل مصر لاستعادة شمل دول الحوض الذى تشتت منذ عدم اكتراثها بانفراد أربع دول باتفاقية محاصصة لمياه النيل ضمت إثيوبيا ورواندا وأوغندا وتنزانيا منذ عشر سنوات وتركت غلبة الرؤى المحلية تتصاعد والتدخلات الدولية تتزايد لتعميق المحلية على حساب التكامل الإقليمى حتى ولو أدى الأمر لتمويل الخطط المحلية التى يتعاظم ترسيخ أولوياتها لدى شعوب تلك الدول ويتشكل لديهم اعتقادا يتخلى عن وحدة الإقليم ومدى ما يمكن أن يحققه من تقدم اقتصادى وتنموى لشعوب الدول الأعضاء كافة.