عاش أبو القاسم الشابى خمسة وعشرين عاما فقط، فقد ولد عام 1909 وتوفى عام1934، واستطاع فى هذه الفترة القصيرة أن يحفر اسمه فى طليعة شعراء الرومانسية العرب.
وإذا كانت قصائد الشابى التى نعرفها تقدم نموذجا إبداعيا للتجديد، فإن كتاباته التى لا نعرفها تظهر فكرا نقديا يعتمد على المراجعة والاجتهاد وعدم تقديس التراث، ولهذا أحدثت محاضرته «الخيال الشعرى عند العرب» التى طبعها بكتابه الأول عام 1929 ضجة واسعة فى تونس ثم العالم العربى وكان نقدها جارحا وعنيفا فى الأوساط المحافظة.
فقد راجع الشابى ـ على سبيل المثال ـ أساطير العرب فى الجاهلية المتعلقة بالغول والهامة والنجوم، وخلص منها إلى أن أساطير العرب كانت «وثنية جامدة جافية لم تفقه الحق ولا تذوقت لذة الخيال، وأوهام معربدة شاردة لا تعرف الفكر ولا اشتملت على شىء من فلسفة الحياة. أما أساطير الأمم الأخرى فقد كانت مشبعة بالروح الشعرية الجميلة زاخرة بفلسفة الحياة الفنية الراقصة فى ظل الخيال.
فقد أخذ اليونان كثيرا من عقائدهم وأساطيرهم عن الآشوريين كما أخذ العرب أنفسهم، ولكنهم طبعوها بطابع حياتهم الخاصة فكانت رشيقة شعرية ساحرة أكثر مما كانت عليه عند الآشوريين، فهم قد أخذوا عن الآشوريين عبادة إلهة الحب والجمال «عشتروت» كما أخذها العرب عنهم.
ولكن العرب عاملوها كما يعاملون أنصابهم التى لا ترمز إلى فكر، ولا تمثل عاطفة، فكانت صنما حجريا جامدا تحجبه الكآبة الصماء والسكون الأليم. أما اليونان فقد اتخذوا لها اسما آخر هو «أفروديت» ونسجوا حول نشأتها أساطير شعرية لم يعرفها الآشوريون أنفسهم.
وقد تعرض فى هذا الكتاب نفسه إلى الشعر الأندلسى من خلال نظرة نقدية متفحصة، حيث لاحظ أنه فى بداية عهده كان لا فرق بين الشعر العربى فى الأندلس والشعر العربى فى الشرق من حيث الروح والنزعة وحتى الأسلوب، ولكن بعد أن طال الزمن وامتزجت الثقافتان، شعر الأندلسيون برغبة حقيقية فى التعبير عن خصوصيتهم واكتشاف منابع جديدة للشعر. ويرى أنهم قد «جدوا فى البحث ودأبوا فى الطلب ولكنهم لم يوفقوا فى بحثهم، فلم يعثروا على المنبع الحقيقى الذى يتندى ماؤه على الكبد الظامئة، ذلك لأنهم بحثوا عن منابع الشعر فى قشور الحياة وأزيائها.
وفتشوا عن حقيقة النفس فى فنون الكلام فجددوا فى الأوزان ولم يجددوا فى الروح وتفننوا فى الأساليب ولم يتفننوا فى الجوهر واللباب، ولو لم يعجلهم القدر المتاح لظفروا بما تشوقت إليه أرواحهم، ولكان فى الأدب العربى نوع قوى عميق لا عهد له بمثله، ولكن جف القلم بما هو كائن، وأخمد القضاء ذلك اللجوج».
وكما اهتم الشابى بالمتابعة النقدية للتراث العربى القديم، فقد اهتم أيضا بالشعر المعاصر، فهو الذى قدم ـ مثلا ـ ديوان «الينبوع» لأحمد زكى أبو شادى الذى صدرت طبعته الأولى بالقاهرة عام 1934، حيث تحدث فى هذه المقدمة ـ ضمن ما تحدث ـ عن علاقة الشعر الحقيقى بحرية الإبداع، وقد تكلم فى بداية حديثه عن المبدع قائلا: «إن روح الشاعر روح حرة لا تطمئن إلى القيد ولا تسكن إليه، حرة كالطائر فى السماء والموجة فى البحر، والنشيد الهائم فى آفاق الفضاء، حرة فسيحة لا نهائية لا تحدها هاتيك النزعات ومجالات نفس الشاعر ولا تتقيد بصورة أو مثال».
ثم انتقل إلى الحديث عن المتلقى قائلا: «والحق أننا نخطئ كثيرا إذا حاولنا أن نفرض على الشاعر آراءنا ومذاهبنا وأحلامنا فرضا، ولن نجنى من وراء ذلك إلا تضليل المواهب الجديدة الناشئة وسخرية المواهب الكبرى السائرة إلى النور، وأنه ليس لنا أن نطالب الشاعر فى شعره بغير «الحياة» وإذا جاز لنا أن نطالبه بأكثر من هذا فلنطالبه بأن تكون هذه «الحياة» رفيعة سامية تتكافأ مع ما للشعر من قدسية الفن وجلاله».
وهكذا كان الشابى يرى أن العلاقة بين الشعر الحقيقى وحرية الإبداع علاقة وثيقة، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد بمعزل عن الآخر.
وربما هذه الحرية التى تفضى إلى الثورة هى ما دفعت الشابى إلى التأثر الفنى بجبران، وقد نظر الشابى إلى جبران بعين الناقد فى مقال كتبه عقب وفاته عام1931حيث قال: «كان جبران ثورة فى الأدب العربى ولكنها ثورة حبيبة جانب البناء فيها أكثر من جانب الهدم والتخريب.
ثورة أيقظت الناس من سبات الدهور وأرتهم آفاقا كانت مجهولة. وأسمعتهم هزيم الحياة وعلمتهم أن روح الشاعر كنز لا يفنى وثورة لا تبيد وأن فى هذا العالم شيئا آخر غير الأمس البعيد».
وهو فى هذا السياق لم ينس أن يدافع عن جبران دفاع المحب، حيث يقول: «سيتحدث الناس عن ثورة جبران على قواعد اللغة العربية أحيانا، ولكن ذلك لا يحط من قيمة جبران فما هى إلا هفوة تغفرها له تلك الثورة المعنوية الخالدة التى خلفها جبران للعربية، وستمر الدهور وتتعاقب الأجيال وينسى الناس عن جبران كل شىء، ولكن لا يستطيعون أن ينسوا هاته الحقيقة: لقد كان جبران عاطفة مشبوبة وخيالا جامحا وفكرا قويا يجوب أعماق الحياة».
هذا هو الجانب الآخر من وجه الشابى، أو قل هو الوجه الأول لأن الأدب المجدد لا ينتج إلا عن فكر نقدى وإرادة حرة. وهذا العام تمر مائة سنة على ميلاد أبى القاسم الشابى، فهل تذكره أحد؟ أم أننا نحب ألا نذكره؟!