وسط زخم الدعايات المفرطة فى الإعلام والمساجلات الحادة على شبكة التواصل الاجتماعى تبدت قوة الإنجاز فى مشهد واحد.
أمام منصات الاحتفال على الضفة الشرقية لقناة السويس مرت بالتوازى سفينتا حاويات عملاقتان، إحداهما فى المجرى الجديد والأخرى فى المجرى التاريخى، وهما تطلقان نفيرا متقطعا ومدويا.
كان ذلك تلخيصا بليغا بلا ادعاء أن هناك ما يستحق الاعتزاز والتأسيس عليه بلا إبطاء.
لكل إنجاز كبير قوة دفع فى الإرادة العامة.
غير أن الوفاء بمتطلباتها قضية أخرى.
الشعوب تكتسب ثقتها فى قدرتها على البناء والإنجاز تحت أقسى الظروف بما تلمسه أمامها من جدية فى الأداء العام.
والمعنى أن القيمة الحقيقية للإنجاز الهندسى الكبير فى رمزيته لا عوائده الاقتصادية ودعاياته المفرطة.
بأرقام هيئة قناة السويس فإن دخلها عام 2014 وصل إلى نحو 5.5 مليار دولار، ولا يتوقع ارتفاع ملموس فى العام الحالى ولا فى أى مدى منظور.
أى ارتفاع يتوقف على حركة التجارة الدولية لا على ما نطلقه من أمنيات تتحقق أو لا تتحقق.
حين تبالغ الدعايات فإنها تضر بأكثر مما تنفع.
بعد عام واحد سوف يسأل الناس عن العوائد الاقتصادية، ولماذا كان المشروع الآن، وما دواعى أولويته؟
وبعد وقت آخر سوف تتبدد للأبد أى دعايات مفرطة تتجاوز طبيعة المشروع وحجمه.
الحقائق وحدها لها الكلمة الأخيرة.
لا أحد يؤسس على أوهام معلقة فى فراغ الصخب أو دعايات فى غير موضعها.
أكثر الأسئلة جوهرية الآن:
أين الخطوة التالية؟
أو كيف نستثمر قوة الدفع؟
إذا لم ندرك أن لكل قوة دفع طبيعتها فإننا قد نبددها فى غير مجراها.
قوة هذا المشروع فى رسالته أننا نستطيع البناء فى ظل حرب مع الإرهاب.
غير أن هذه الرسالة تستدعى استراتيجية شبه متماسكة لهذه الحرب لا تتوقف عند الإجراءات الأمنية.
كل قدرة على الإنجاز تضرب فى الإرهاب وبيئاته الحاضنة.
ما جرى مجرد خطوة من ألف خطوة على ما قال محقا الرئيس «عبدالفتاح السيسى».
لا توسيع قناة السويس أهرامات جديدة، ولا نحن «نكبر اسم مصر»، وقد كانت تلك من الدعايات المنفلتة التى أساءت لكل معنى حضارى فى هذا البلد العريق.
هناك فارق بين الاعتزاز بثقة والمبالغة بجهالة.
بالمعنى نفسه كل تقدم فى العدل الاجتماعى الذى نفتقده بفداحة يضرب فى الإرهاب ويطوق مسلحيه.
إذا لم نول قضية العدل الاجتماعى ما تستحقه من انحيازات وسياسات وإجراءات فإن موجات الفرح التى علت بلا اصطناع ــ الوجوه المصرية ــ فى الشوارع قد تتبدد بأسرع من أى توقع.
لا يمكن الرهان على أى مستقبل فى ظل انهيار شبه كامل لمنظومتى التعليم والصحة وغياب العناية الواجبة بالمشروعات الصغرى والمتوسطة التى تفتح فرص العمل أمام قوافل العاطلين.
الناس تصبر على أوضاعها الصعبة عندما ترى أمامها أملا يرتجى فى المستقبل، وأن عوائد أى إنجاز تعود إليها لا إلى الحيتان المتنفذين الذين نهبوا مواردها وجرفوا طاقاتها على مدى أربعة عقود متصلة.
هذه نقطة فارقة فى اختيار المواقع واختبار السياسات.
بصراحة كاملة هناك صراع اجتماعى حقيقى فى مصر الآن على صورة المستقبل، والانحيازات لا بد أن تكون صريحة وواضحة.
لا يكفى أن يقول الرئيس مرة بعد أخرى «لا عودة للوراء».
لا بد أن يتأكد ذلك فى إجراءات تحارب الفساد وتضرب مراكزه.
وهذه نقطة فارقة أخرى فى اختيار المواقع واختبار السياسات.
من أخطر التحديات الآن ضبط الصواميل المفكوكة فى بنية الدولة التى جرى تخريبها.
فى مشروع توسيع قناة السويس لعبت الإدارة الهندسية للقوات المسلحة المصرية دورا جوهريا، غير أنه يصعب الاعتماد عليها وحدها فى المشروعات التالية، وإلا فإننا نحملها بأكثر مما تحتمل، ونرهق رجال السلاح فى ظل حرب ضارية مع الإرهاب بما يخرج عن طبيعة مهامهم الطبيعية.
هناك حاجة ملحة لتفكير جديد يرد الاعتبار للقطاع المدنى، فهو الأساس بأى استثمار استراتيجى.
فى نفس المشروع تبدت أدوار جوهرية أخرى لتحالفات دولية فى تكريك نحو 72 كيلومترا من قناة السويس.
وهناك حاجة ثانية لتفكير جديد يثق فى أفضل ما فى البلد من خبرات ويعمل على توسيع نطاقها.
من بين أفضل ما ينسب لبناء السد العالى أنه أسس مدرسة مصرية فى الهندسة على أعلى درجات الكفاءة، تولت البناء الكبير فى ستينيات القرن الماضى.
إذا لم نقدم على هذه الخطوة الحاسمة فإننا لن نغادر أوضاعنا الحالية سوى بأمتار قليلة حيث نطمح أن نقفز.
فيما هو معلن هناك تأهب للبدء فى مشروع تنمية محور قناة السويس.
المشروع يمثل أملا حقيقيا لزيادة الدخل القومى المصرى.
بطبيعته فهو يستثمر فى أهم ممر تجارى دولى، الذى تقصر فوائده الاقتصادية حتى الآن على تحصيل رسوم العبور فيه.
إذا لم تتوافر لمشروع تنمية محور قناة السويس عوامل الجدية والشفافية والنزاهة التى أفضت إلى نجاح مشروع توسيعها، فإن خسارتنا سوف تكون باهظة.
وفيما هو معلن هناك مشروع حيوى آخر لشق قناة ملاحية إلى ميناء بورسعيد لا تمر بقناة السويس، وليست قناة ثالثة على ما تقول دعايات تفتقر إلى أى معلومات عن طبيعة هذا المشروع.
هناك قناة سويس واحدة، لا ثانية ولا ثالثة.
هذه حقيقة نهائية، وأى كلام آخر لن يصمد لاختبار التاريخ.
وفيما هو معلن هناك مشروعات كبيرة بعيدة عن قناة السويس.
بعضها الأول له ضروراته مثل الاستثمار فى البنية التحتية وشبكات الطرق.
وبعضها الثانى يحتاج التأكد من جدواه وسلامة خططه التنفيذية كمشروع المليون فدان.
وبعضها الثالث يستحق التراجع عنه كالعاصمة الإدارية الجديدة، حيث تناهضها أغلبية واضحة من أهل الاختصاص والسياسة.
بقدر انفتاح المجال العام على حوار واسع بلا حواجز أو قيود فإن الرؤى تتبلور والخطط تحكم وقوة الدفع تأخذ مداها.
بتلخيص آخر فإن الاختبار الأكثر جوهرية الآن هو مدى القدرة على بناء نظام جديد يلتحق بعصره، يوسع المجال العام ويصون الحريات الدستورية بينما هو يبنى بيد ويحرس بيد أخرى.
بناء نموذج سياسى ملهم من مقومات دحر الإرهاب وإفساح المجال للمستقبل لكى يتقدم.
وذلك يقتضى إصلاح الجهاز الأمني ــ وفق القيم الدستورية ــ دون إبطاء إضافى، وإنهاء أزمة الدولة مع شبابها دون تأجيل آخر.
ورغم كل التحفظات الجوهرية على القوانين المنظمة للانتخابات النيابية فإن وجود برلمان منتخب بنزاهة أفضل ألف مرة من الوضع الحالى الذى تصدر فيه القوانين بعيدا عن رقابة الرأى العام وبعضها يصادم النص الدستورى.
بقوة الدفع يستطيع النظام الجديد أن يعلن عن نفسه ويأخذ حيزه فى التاريخ.
هذه فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى.