نشأت الولايات المتحدة متحررة من قيود وأعباء القارة الأوروبية خاصة فيما يتعلق بهويتها وقوميتها ودينها والصراعات المرتبطة بهذه المعضلات، وعلى الرغم من هذا التحرر، ينادى اليوم كثيرون بشعارات قومية وعنصرية فاشية أعطاها زخما كبيرا وصول دونالد ترامب لسدة الحكم فى انتخابات نوفمبر الماضى. ولطالما شهدت الولايات المتحدة تنازعا مستمرا بين تيارين رئيسيين أولهما لديه رؤية ضيقة ترتبط بقوالب جامدة متعصبة للون بشرتها ولغتها وثقافتها، والأخرى رؤية واسعة ترى بلادها جزءا من عالم متنوع أكبر تقتبس منه وتسهم فى تقدمه الحضارى.
عكست الأحداث التى شهدتها مدينة «شارلوتسفيل» بولاية فيرجينيا الأسبوع الماضى هذا الانقسام فى أحد جوانبه عاكسة واقعا أمريكيا قبيحا جديدا عكس بدوره تصاعدا ملموسا للحركات اليمينية العنصرية. انتخاب ترامب أعطى هذه الحركات ثقة كبيرة بنفسها وثقة بخطابها وبقادتها وبحجم وجودهم وقوة انتشارهم بين الأمريكيين.
***
على العكس من أغلب دول العالم، نشأت الدولة الأمريكية مرتكزة على توازنات سياسية عملية أكثر من ارتكازها على أسس أيديولوجية تتعلق بتاريخ أو خبرات جمعية ثقافية متراكمة لسكانها الجدد. وبعيدا عما اقترفه المهاجرون الجدد من جرائم وفظائع ضد سكان أمريكا الأصليين، اختار هؤلاء المهاجرون متعددو العرقيات والإثنيات التأسيس لدولة حديثة تقوم على أسس قوامها دولة جمهورية فيدرالية دستورية تمثيلية علمانية. ورغم حداثة الدولة الأمريكية التى لا يتعد عمرها 240 عاما، إلا أنها تمتلك أقدم دستور مكتوب فى العالم، إذ كُتب عام 1787 على يد 55 شخصا يطلق عليهم «الآباء المؤسسون». ويضع الشعب الأمريكى دستوره فى نفس مقام الكتب السماوية أو أعلى منها تقديسا واحتراما. واقتبست العديد من دول العالم مثل البرازيل وبلجيكا والنرويج واليابان والمكسيك، خبرة كتابة دساتيرها مهتدية بالتجربة الأمريكية. ولم يكن الدستور الأمريكى وثيقة طويلة، ومع ذلك وفر إطار عمل لأكثر أنظمة الحكم تعقيدا.
جاء الدستور الأمريكى مختصرا خاليا من العبارات اللغوية عديمة الجدوى، يحتوى فقط على 7 مواد، تتضمن بدورها 36 فقرة، ويصل مجموع كلماته 3520 كلمة (ما يقرب من خمس صفحات). حتى بعد إضافة 27 تعديلا عليه خلال القرنين الماضيين، والتى كان آخرها عام 1992، لم يزد عدد كلماته عن 6500 كلمة (عشر صفحات تقريبا).
وبعد الانتهاء من كتابة الدستور، وبعد انتهاء عملية المصادقة عليه والتى استغرقت عاما كاملا، شعر الأمريكيون أن هناك غيابا لعنصر جوهرى، ألا وهو عدم حماية الدستور للحقوق الفردية. لذا فبمجرد عقد أول اجتماع للكونجرس فى تاريخ الولايات المتحدة عام 1789 بمدينة نيويورك، اتفق المشرعون على إدخال عشرة تعديلات على الدستور عرفت بوثيقة الحقوق Bill of Rights. وتلك الحقوق قضت رسميا على أى احتمال للتميز القانونى على أساس العرق أو اللون أو الخلفية العرقية أو الجنسية، وساوت تماما بين الأمريكيين فى حقوقهم وواجباتهم.
***
لا يحتوى الدستور الأمريكى على أى ذكر لكلمة الرب أو الله أو الآلهة. فقط استخدمت كلمة الدين للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين على أساس عقائدهم، فالفقرة السادسة من الدستور تنص على أنه ليس من الوارد إجراء اختبار دينى لأى شخص يرغب فى شغل أى وظيفة حكومية. وبعد سنوات تم تبنى أول تعديل فى الدستور الأمريكى للتأكيد على عدم قيام الكونجرس بأى حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس دينى. ورغم ذلك كان هوى أمريكا ومنذ بدايتها بروتستانتيا مسيحيا بلا جدال، فقد كانت الأغلبية الكبيرة من الآباء المؤسسين من المهاجرين البروتستانت البيض.
لم تمثل الطوائف المسيحية الكبيرة الأخرى مثل الكاثوليكية بين الآباء المؤسسين، ولم تعرف أمريكا فى تاريخها أى رئيس غير بروتستانتى باستثناء جون كينيدى الكاثوليكى. ولم يعتبر الكثير من البروتستانت الأمريكيين نظراءهم الكاثوليك مسيحيين مثلهم. ولم يعتبروا كذلك السود الأفارقة من اتباع البروتستانتية إخوة لهم فى الديانة. ودائما ما مثّل البروتستانت صوت الأغلبية فى الانتماءات الدينية بين الأمريكيين، وهو ما جعل هوى أمريكا بروتستانتيا أبيضا. إلا أن المجتمع الأمريكى يتمتع بديناميكية وتفاعل أدى من خلال التغيرات الديمغرافية التى تشهدها وشهدتها الولايات المتحدة خلال النصف قرن الأخير لتغيير هذا الواقع. فقد هاجر لأمريكا خلال النصف قرن الأخير ما يقترب من 60 مليونا من دول أمريكا الوسطى الكاثوليكية بالأساس وآسيا غير المسيحية بصفة أساسية، وهو ما جعل أمريكا ومجتمعها أكثر تنوعا واختلافا عما يعتقد كثيرون.
بلغ عدد سكان أمريكا العام الماضى ما يقرب من 323 مليون نسمة، منهم 61% من البيض مقابل 17.6% من الهيسبانيك (مكسيكيون كاثوليك بالأساس)، و13.3% من السود الأفارقة، و5.6% من الآسيويين، والبقية متنوعة. فى ذات الوقت انخفضت نسبة البروتستانت من 51.4% عام 2007 لتصل 46% عام 2016، وفى الوقت نفسه تقلصت نسبة المسيحيين إجمالا لتنخفض من 78% عام 2007 إلى أقل من 70% عام 2016. ويرفض الكثير من المتعصبين البيض البروتستانت الاعتراف بواقع أمريكا الجديد، يرون فى التغيرات تلك تهديدا وجوديا لهم ولأمريكا التى فى مخيلتهم الجمعية. وكانت لحظة انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود لأمريكا عام 2008 تمثل لهم تدشينا جديدا لانحدار السيطرة التاريخية للبروتستانت البيض. وكان رد الفعل متمثلًا فى الوقوع فى حضن حركة حزب الشاى المحافظ المتطرفة بمعايير الحزب الجمهورى ذاته. من هنا تخرج دعوات عنصرية تؤمن بسمو الجنس البيض، وتخرج وتنتعش دعوات العداء للهيسبانيك والمسلمين واليهود والسود.
***
شكل وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة صدمة لكثير من الناس حول العالم، إلا أن هذا النصر كتب شهادة ميلاد جديدة للتيارات العنصرية المتطرفة اليمينية فيها، هذه التيارات تحاول إعادة تركيب التاريخ الأمريكى ليظهر وكأنه تاريخ أبيض بروتستانتى. وعلى الرغم من وجود حالة استقطاب سياسى وانقسام مجتمعى حاد خارج واشنطن حول كل القضايا المهمة الداخلية مثل الرعاية الصحية وحقوق المثليين ودور الدين فى الحياة العامة وحق حمل السلاح، وغيرها كثيرا ــ فإن هذه الانقسامات تبقى بعيدة عن عرقلة المسيرة الأمريكية بسبب وضوح قواعد اللعبة السياسية وصرامتها من خلال تقديس الدستور الذى وضع معادلات مناسبة للحالة الأمريكية، يدرك الجميع أن الانقلاب عليها كفيل بهدم المعبد الأمريكى على رءوس الجميع. إلا أن ما يشهده المجتمع الأمريكى منذ وصول ترامب للحكم وتبنيه شعار «فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» ليتم فهمه من أنصار ترامب «فلنجعل أمريكا بيضاء مرة أخرى».
عرفت أمريكا لسنوات ظاهرة المكارثية، والتى انتشر معها خطاب الخوف والكراهية والشعبوية القومية. إلا أن المكارثية فشلت، وما تراه أمريكا اليوم أقل وطأة من خبرة المكارثية، ولكن يكون مصير الحالة الشعبوية التى أيقظها ترامب وأوصلته للرئاسة إلا الفشل.