ما عادت «البلطجة» تعبيرا غريبا على اللغتين العربية أو التركية، ولا مصطلحا دخيلا على قاموس السياسة الدولية. فبينما يعود لفظ «البلطجى» إلى الجنود العثمانيين المتسلحين بالبلطة أو الفأس وكان يناط بهم تصدر الجيوش وتمهيد الطرق لمشاتها وفرسانها ومعداتها لتسهيل اقتحام المدن والبلدات، عبر قطع الأشجار وفتح الثغرات فى جدران القلاع ودك أسوار الحصون، عكف القادة العثمانيون حينا من الدهر على تطعيم جيوشهم بفيالق من أولئك النفر، حتى أنهم خصصوا فرقة من الحرس السلطانى أسموها «فرقة البلطجية»، عهدوا إليها بحماية القصور بما كانت تحويه من كرائم النساء وثمين المقتنيات، ومن بين رجالاتها خرج «سليمان باشا البلطجى» الذى عينه السلطان أحمد الثالث واليا على مصر عام 1704م.
أما فى حقل العلاقات الدولية، فبرأسه أطل نموذج «الدولة البلطجية» أو«Pully State»، التى لا تتورع عن تبنى جميع آليات القوة الخشنة والناعمة، بالتوازى مع اعتماد مختلف أنماط التضليل والخداع، كما الاستعانة بالإرهابيين والمرتزقة، توخيا لبلوغ مآرب استراتيجية، ولوعلى حساب أمن وحقوق وسيادة الدول الأخرى، ضاربة عرض الحائط بالشرعية الدولية ممثلة فى جميع الأعراف والقوانين والمواثيق والمعاهدات التى تنظم العلاقات بين دول العالم. ومؤخرا، لم يتورع وزير الخارجية التركى عن نعت التموضع العسكرى الفرنسى بشرق المتوسط لمؤازرة اليونان فى مواجهة التهديدات التركية بـ«البلطجة».
ومنذ الإفصاح عما بأحشائه من احتياطيات نفطية وغازية مذهلة، يشهد إقليم شرق المتوسط تجسيدا حيا لنموذج «البلطجة الاستراتيجية» من قبل تركيا الإردوغانية. فبعدما تفلتت من ترسيم حدودها البحرية وتعيين مناطقها الاقتصادية مع دول الجوار أو التقابل المتوسطى استنادا إلى اتفاقية البحار لعام 1982، التى اعتمدتها الأمم المتحدة كمرجعية قانونية بهذا الصدد، مخافة حصر مناطق الصلاحية البحرية الخاصة بها فى بقعة مقابلة لخليج أنطاليا لا تتجاوز مساحتها 41 ميلا بحريا مربعا تخلو من أية ثروات نفطية أو غازية، أبت أنقرة إلا تجاهل القانون الدولى وتغليب منطق القوة مع ادعاء الوصاية على أطراف أخرى بهذا المضمار كقبرص التركية وحكومة الوفاق الليبية، بغية فرض أمر واقع بالإقليم الذى يعد شطره الجنوبى بحيرة تموج بالغاز والنفط، بما يخولها توسيع مناطقها للصلاحية البحرية وتعظيم فرصها فى العثور على موارد هيدروكربونية، علها تقلص عجز الطاقة المزمن لديها أوتوقف نزيف العملة الصعبة الناجم عن إهدار زهاء خمسين مليار دولار سنويا لتلبية احتياجاتها المتنامية منها.
من هذا المنطلق، توالت تهديدات كبار المسئولين الأتراك باستخدام القوة لإملاء إرادتهم بشرق المتوسط، فبينما جدد إردوغان رفضه إقصاء بلاده عن موارد المنطقة وحبسها داخل سواحلها الفقيرة، شدد وزير دفاعه خلوصى أكار على حقها فى الاستفادة من ثروات مناطق الصلاحية البحرية خاصتها، والتى تتسع لتشمل الجرف القارى المقابل لليبيا، كما ذلك التابع لما يعرف بجمهورية شمال قبرص غير المعترف بها دوليا، مشددا على أن تركيا تملك من القوة العسكرية ما يكفى لحماية تلك الحقوق فى بحر إيجة وشرقى المتوسط، فضلا عن تقويض أية مشاريع تتجاهل تركيا وحلفاءها بالإقليم.
فى سبيل ذلك، انطلقت أنقرة من عدة مرتكزات: أولها، قانونى، يتمثل فى إبرام اتفاق غير شرعى عام 2011 مع ما تعتبره جمهورية قبرص التركية، التى لا تعترف بها سوى أنقرة، بغية شرعنة أنشطتها المشبوهة للتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل الجزيرة المقسمة، ثم توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية فى نوفمبر الماضى، تتيح لتركيا التنقيب عن المواد الهيدروكربونية فى جرف قارى يمتد من ساحلها الجنوبى ليلامس شواطئ كل من ليبيا وقبرص واليونان، بما يجعل من تركيا نقطة مرور حتمية واستراتيجية لجميع خطوط الأنابيب التى تنشد نقل الغاز من شرق وجنوب المتوسط إلى القارة العجوز.
وثانيها، تصعيدى، ينصرف إلى عسكرة الأوضاع بشرق المتوسط عبر مواصة المراحل التمهيدية من أعمال التنقيب عن الغاز والنفط بإطلاق النشرات التحذيرية الدورية «نافتيكس» لمباشرة عمليات المسح الزلزالى غير القانونى ببؤر التداخل البحرى مع المناطق الاقتصادية الخاصة بقبرص واليونان تحت حماية القوات الجوية والبحرية التركية، بالتزامن مع إجراء المناورات الحربية الدورية وإنشاء قواعد عسكرية فى الشطر الشمالى من جزيرة قبرص، علاوة على إرهاب البحرية التركية للشركات الدولية التى تباشر مهام التنقيب بمناطق الصلاحية البحرية لقبرص واليونان. الأمر الذى من شأنه تأجيج التوترات وتغذية بواعث الصدام فى شرق المتوسط، خصوصا مع رفع اليونان درجة جهوزيتها العسكرية، وتعزيز كل من ألمانيا وفرنسا تموضعهما العسكرى فى الإقليم، فى الوقت الذى دخلت اتفاقية التعاون الدفاعى بين فرنسا وقبرص حيز التنفيذ مطلع الشهر الجارى.
أما ثالثها، فسياسى، يتجلى فى سعى أنقرة الحثيث لضرب عصفورين بحجر واحد عبر استغلال الانقسام الأوربى واستثمار التراخى الأمريكى إزاء ما يجرى فى شرق المتوسط. فمن جهة، لم يدخر إردوغان وسعا فى توظيف الانقسام الأوربى لإجهاض أى تحرك عقابى غربى ردا على خروقات بلاده بليبيا وشرق المتوسط، وهو الانقسام الناجم عن اعتماد الاتحاد الأوربى قاعدة الإجماع لتمرير القرارات، بما فيها تلك المتعلقة بطلب اليونان وقبرص وفرنسا فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، والذى لا يلقى ترحيبا من قبل ألمانيا وإيطاليا ومالطا وأسبانيا، وغيرها من الدول الأوروبية التى تجنح لحماية علاقاتها ومصالحها مع تركيا، داعين إلى وضع إطار تفاوضى أشمل لتسوية جميع النزاعات والخلافات العالقة معها، سواء فيما يخص الطاقة، أو الحدود البحرية، أو المسألتين القبرصية والليبية أو قضايا الهجرة وما سواها. فبينما انسحبت مالطا رسميًا من «عملية إيرينى» الأوروبية، لمنع تهريب الأسلحة إلى ليبيا، ما عزز آمال أنقرة فى الرهان على دعم لوجيستى مالطى لمغامراتها المتواصلة فى ليبيا وشرق المتوسط، تخشى دول أوروبية كألمانيا من فتح تركيا الأبواب لتدفق جحافل اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين، سواء عبر حدودها مع أوربا، أو بامتداد شواطئ ليبيا الطويلة التى تعد أخطر وأهم معبر جيوسياسى للمهاجرين من القارة السمراء إلى نظيرتها العجوز، بينما تحرص دول أوروبية أخرى كبريطانيا وأسبانيا على المضى قدما فى إبرام المزيد من صفقات التسلح مع تركيا، بما تتضمنه من برامج للتصنيع العسكرى المشترك.
من جهتها، تنأى واشنطن عن اتخاذ موقف صارم حيال خروقات تركيا المتواصلة والمتفاقمة بشرق المتوسط، طالما ظلت الأخيرة تضطلع بدورها فى مخطط كبح جماح التطلعات الاستراتيجية الروسية جنوب المتوسط، سواء من خلال دعم المساعى الأمريكية الرامية إلى إنهاء اعتماد أمن الطاقة الأوروبى على الغاز الروسى وإجهاض المشاريع الجديدة لنقله لأوربا، واستخدام غاز شرق المتوسط والجزائر كبديل له، إلى جانب إفساح المجال للغاز الصخرى الأمريكى ليغزو الأسواق الأوروبية، أو عبر تقويض مساعى موسكو لإعادة إنتاج السيناريو السورى فى ليبيا ومنعها من التموضع الجيواستراتيجى أو إقامة قواعد عسكرية دائمة هناك، خصوصا بعد تأكيد «أفريكوم» نهاية شهر مايو الماضى، مواصلة موسكو إرسال المنظومات التسليحية المتطورة إلى ليبيا كأنظمة الدفاع الجوى الصاروخى، والطائرات المقاتلة من طرازى «ميغ 29 » و«سوخوى 24»، لمعاونة مرتزقة «فاجنر» هناك.
وفى حين سلط جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى السابق فى كتابه المثير «الغرفة التى شهدت الأحداث»، الضوء على العلاقة الشائكة بين ترامب وإردوغان، وتفنن الأخير فى استغلال تلك العلاقة لتسجيل نقاط فى إدارة الخلافات بين بلاده وواشنطن، فضلا عن توفير مظلة لانتهاكاته وسياساته العدائية فى المنطقة، نشرت صحيفة «واشنطن إكزامينر» الأمريكية مؤخرا مقالا للكاتب مايكل روبين بعنوان «وزارة الخارجية تعانى من مشكلة اسمها تركيا»، كشف حرص طائفة من المسئولين بوزارة الخارجية على تبرير السلوك التركى وتقليص أية تدابير أمريكية لمحاسبة أنقرة، إلى حد إعاقة تقديم وزارة الخارجية ثلاثة تقارير للكونجرس حول الانتهاكات التركية بشرق المتوسط وعموم المنطقة، حسبما يقضى قانون شراكة الأمن والطاقة لشرق المتوسط، الذى تم تفعيله فى ديسمبر الماضى. الأمر الذى فجر تساؤلات مثيرة بشأن إمكانية إعادة إنتاج النموذج الأمريكى فى الوساطة بين إسرائيل ولبنان، لتسوية النزاع الحدودى البحرى بينهما، عساه يفضى إلى نزع فتيل التوترات المتعاظمة والمواجهات المحتملة بين تركيا وجوارها المتوسطى.
لا ريب، والحال هكذا، أن تفاقم واستمرارالانتهاكات التركية بشرق المتوسط على النحو الذى يحرك صراعات مزمنة ويؤجج نزاعات متجددة، بموازاة تأخر تسوية الخلافات الحدودية مع تنامى التخمة فى معروض الغاز إقليميا وعالميا، من شأنه أن يعيق جهود الاستغلال الأمثل لثروات حوض شرق المتوسط، الأمر الذى يجعل من حلحلة تلك الصراعات وإنهاء هذه النزاعات ضرورة ملحة، إذ ما أريد لمقدرات الإقليم أن تتحول من مسببات للصدام والتوتر إلى بواعث للأمل والاستقرار والتنمية من خلال التعاون الاقتصادى الذى يوفر لدول الإقليم فرصة تاريخية للنهوض والاعتماد المتبادل. وأحسب أن المسارعة فى تحويل منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة دولية للغاز على غرار منظمة «أوبك» النفطية لهى خير بداية لهكذا مسعى، لاسيما وأن هناك نقطة انطلاق حيوية يمكن البناء عليها تتمثل فى التوصية التى صدرت بهذا الخصوص خلال اجتماعات الدورة الثانية للمنتدى فى يوليو من العام الماضى، فيما تتواصل بدأب اجتماعات مجموعة العمل رفيعة المستوى التى شكلها المنتدى لاستكمال الإجراءات المطلوبة.
فإلى جانب توافق أعضاء منظمة غاز شرق المتوسط المقترحة، التى ستفتح أبوابها لكل من يلتزم بمبادئها ويحترم تقاليدها دونما إقصاء، على تهيئة الأجواء لتحقيق الاستفادة المثلى من ثروات الإقليم وتأسيس بورصة أو آلية لتسعير الغاز عالميا، بما يعزز التحول الكونى صوب الطاقة النظيفة ويرسخ دعائم استقرار أمن الطاقة العالمى، لن يستعصى على تكتل جيواستراتيجى يضم أبرز الفاعلين الإقليميين والدوليين، بلورة الصلاحيات وابتكارالأدوات الزجرية، التى تعينه على مجابهة شتى التحديات، كما ردع كل من تسول له نفسه إشهار سيف البلطجة أو التمرد، للمساس بسيادة الدول الأعضاء والجورعلى حقوقها، أو النيل من أمن واستقرار الإقليم، الذى أضحى رقما صعبا فى معادلة الأمن الدولى بمختلف أبعاده.