استقبلها واقفا ومرحبا ثم دعاها للجلوس مشيرا إلى مقعد مريح. اختار لنفسه المقعد المواجه لمقعدها، مقعده مريح أيضا ولكنه لا يوفر الراحة التى يوفرها المقعد الذى دعاها للجلوس فيه. سألها إن كانت تفادت الطريق الصعبة، وإن الأقصر، للوصول إلى مقر الشركة. سألها السؤال وكان واثقا من أنها سلكت الطريق الصعبة. أدهشتها هذه الثقة المبكرة فاللقاء بالكاد بدأ. منعت نفسها من الانشغال بدقة استنتاجه وبخاصة وقد تنبهت أنها للحظة غابت عن الجلسة، لحظة استهلكتها فى تحليل أناقته وعمق نظراته وهدوء أعصابه. استعادت سكونها وتركيزها حتى لا يفوتها حرف يصدر من بين شفتيه.
قدم نفسه لها بكلمات قليلة ولكن مفيدة. خرج للعمل صغيرا ولم ينقطع عن الدراسة. جمع بينهما، حتى توفر له من المال والخبرة ما يسمح بالمساهمة فى تأسيس هذه الشركة وإطلاقها. استطرد قائلا إن الشركة نجحت اعتمادا على مبدأين، أولهما عدم التوقف عن تجديد شبابها، والتجديد لا يعنى الاكتفاء بضم عاملين صغار السن بعد تدريبهم. إنما يعنى أيضا تجنيد كفاءات من أعمار متقدمة عاشت وبقيت مبدعة وخلاقة وشبابها متجدد. اعتمدت الشركة أيضا على اعتناق روح المنافسة ليس فقط فى علاقاتها بقرائنها فى السوق ولكن أيضا فى علاقاتنا كعاملين داخل الشركة.
تحدث أكثر عن نفسه وأشياء أخرى، تحدث عن الموقف من المرأة. اتهمهم، لم يحدد المتهمين، اتهمهم بأنهم ظلموا المرأة. حتى المرأة ظلمت المرأة وانحازت عبر التاريخ إلى الظالمين. «لعلها وجدت فى الإحساس بالمظلومية مدخلا ممهدا إلى قلب الرجل، أو على الأقل عطفه وكرمه. اكتشفت فيما يبدو منذ يومها الأول فى العش الذى جمعهما أن معظم الطرق إلى قلبه غير ممهدة حتى تلك التى مشت فيها نساء قبلها. مرت على الرجل من استعذبت جرها من شعرها من قلب الغابة حتى باب العش. كانت بلا جدال كبير مطمئنة إلى أنها وهى تنجر جرا على الأرض إنما كانت تحت حمايته من غائلة الأشرار والمتوحشين من سكان الغابة وأحراشها. لا أشك فى أن واحدة منهن عرفت أن صراخها فى العش الذى يؤويهما بينما هى تتلقى برغبات متصاعدة ضربات العصا الغليظة ذات النتوءات، كان هذا الصراخ يزيد الرجل فى نظرها قوة على قوة ورجولة على رجولة. وأظن أنها أورثت بعض بناتها فى بعض عصرها وعصور أخرى عديدة، ملكات كن أم عاملات، عشق تلك العصا ذات النتوءات». سكت قليلا قبل أن يضيف قناعة أخرى من قناعاته قائلا: «للأسف لم تدرك المرأة، أو لعلها كعادتها أدركت وتغافلت، أنها والرجل والعصا ذات النتوءات والعش الأول غرسوا فى تربة هذا الكون بذرة التاريخ وبذور أخرى منها بذرة الحب. أنا مقتنع أنه بدون هذه التعقيدات فى حياة المرأة الأولى ومن جاء بعدها من نساء ما كان الحب. أعلم، أو علمونى، أن لا حب هبط بمظلة من السماء، حتى ذاك الحب الهابط من السماء هددته أثناء هبوطه الأعاصير وتلاعبت به الرياح وغطاه الجليد قبل أن تذيبه شمس حارقة حينا وناعمة حينا آخر. وصل منهكا ولكن متوقد بالأمل زاخر بالأحلام واثق بقدراته».
•••
تحدث طويلا. تخللت فترات سكوته لحظات شغلتها امرأة هذا اللقاء بالتفكير ليس فيما قال ولكن فيما لم يقل. تكلم عن أمور محببة إلى نفسها مثل علاقة النساء بالرجال عبر التاريخ ومثل الحب. تمنت فى لحظة سكون أن يعود بعدها للحديث عنه، عن الحب. تحدث عن الطبيعة وأسرارها، عن الطموح والتقدم، عن الفن والأدب ودور كل منهما فى تكوين الإنسان. تحدث عن الموسيقى بخاصة وعن الغناء والمسرح بأنواعه ومدارسه، المسرح القديم والكلاسيكى والحديث. استمر يتحدث مع انقطاعات مرغوبة من المستمعة، ففى الانقطاعات تزدهر التوقعات وتحلو الأحلام وينشط الخيال فتتوالى الابداعات حتى يعود المتحدث إلى قضبان مشى فوقها حديثه، لم يخرج عنها إلا لانقطاع يتحرر فيه منها، أى من روابط القضبان أو أغلاله.
تمنت صاحبتنا لو أن جلستهما، كما يقول الأجانب، مفتوحة النهاية. أمستمتعة هى بالجلسة؟ وهل أدرك صاحبنا أنها بالفعل مستمتعة بوجودها فى هذا المكان الذى طالما قال عنه أنه حفر الأرض التى قام عليها بأظافره. مثل هذا الرجل، هكذا فكرت فى لحظة سكت فيها عن الكلام، يحب هذه الشركة وأرضها وسماءها حبا لا يجاريه حب آخر، ولعله أو فى غالب الأمر، لا مساحة فى قلبه لحب أشياء أخرى، وأحيانا يأتى هذا الحب على حساب آخرين من البشر. لاحظت أنها اكتأبت بعض الشىء، أو اكتأبت كثيرا، عندما راحت تفكر فى حبه للمكان الذى ارتبط به معظم سنوات عمره، وكانت قد رأت فى عينيه وهو يتحدث ومضات لم تحسن تفسيرها أو فسرتها وسرعان ما كذبت ما فسرت. ملامح غيرة أو غيرة وقعت وتتعمق.
غريب أمر هذا الرجل. هكذا استنتجت صاحبتنا. «استدعانى لمقابلة، مرت ساعة ولم يسألنى سؤالا واحدا عن نفسى. أخشى أن ينتهى وقت اللقاء، وهو وحده الذى يحق له إنهاء الوقت أو تمديده. أتمنى تمديده. أحمد الله أن الرجل فى هذه اللحظة لا يرى ولا يسمع ما يمر على ذهنى من أمنيات وأحلام يقظة. ليس من حقى كضيفة لقاء فى مكتبه أن ألفت نظره إلى أننى لم أتحدث بعد. أنا لست غاضبة ولا مستفزة. على العكس تماما أنا أقضى فى هذه الدقائق بعض أحلى لحظات عمرى. قابلت رجالا كثر. أكثر مما يستحقون. وللحق بينهم من أحب أن يحتل مكانا ولو قصيا فى خيالى. أحدهم، على ما أذكر عرف كيف يستفز أنثى النمر المتوثبة دائما فى داخلى. أثمر هذا الاستفزاز ابداعات ما تزال تضىء سيرتى الذاتية. رجل آخر استطاع ببروده وذكائه أن يطفئ أو يبرد، لفترة من حياتى محدودة، جذوة فى أحاسيسى ورغباتى كانت مشتعلة بحكم المرحلة البضة من عمرى التى كنت أمر فيها وكان كظلى لا يفارقنى».
استمرت الكلمات تتدفق فى رأسها دون نية أن تحثها على أن تصل إليه. هكذا فكرت، «هذا الزوج من الأحذية المدببة الرأس لا شك أوحت إليه بارتدائه لمقابلتى القوى الخفية التى تعمل فى الكون لخدمتى وحمايتى وتلبية رغباتى. الفضل لأمى التى زرعت فى عقلى أذواقا معينة لأناقة الرجل قبل أن تزرع فيها أذواقا لمستقبلى كامرأة. هى الأم التى بدأت بالحذاء وصعدت بالذوق حتى غطاء الرأس. راح ظنها إلى أن رجلا أنيقا لابد أن يصير فى يوم من الأيام زوجا رائعا. كانت تحكى بكل الفخر الملازم لها وهى تحكى سيرا من ماضيها كيف أن صديقا لها كان يقضى صباح يوم السبت من كل أسبوع بصحبة أحذيته المصطفة صفوفا منتظمة بألوانها المتعددة وماركاتها العالمية المختلفة، وكأنها ترفع أعلام بلادها كل سبت فى تحية زعيم إذا انتصب واقفا فهو كجنرال فى جيش الإنجليز. كان يدعوها أحيانا لمشاهدة منظر الحشد واصطفاف كل زوج يزهو بلمعة الجلد وبهاء الطلعة متوجها إلى موقعه فى معسكر خصصه صديقها لمواكب عودة أحذيته ونومها تحت أغطيتها المستوردة من بلاد نشأتها.
جلست تسمع. لم يَخِبْ ظنها إذ انتقل لموضوع آخر دون أن ينتبه إلى أنه أطال احتكاره للحديث. مع طول إنصاتها لما يقول ازدادت قدرتها على الجمع بين الإنصات والتركيز على نظراته وسلوكيات جسده. أدركت أنه يبذل جهدا ليخفى رغبات ونوايا وأحاسيس لا علاقة لها بالكلام الصادر من بين شفتيه. أدركت أيضا ضرورة أن تبذل هى نفسها جهدا مماثلا لتخفى إعجابها المتزايد بفصاحته وبخاصة عند الحديث عن مسائل عاطفية، معظمها لا يخصه بشكل مباشر. لاحظت أيضا أنها لم تعد ترى الرجل كما هو جالس أمامها فى غرفة مكتبه ومن حوله أثاث يناسب فى تكوينه واختياره أناقة صاحبه، صارت تراه جالسا أمامها بملابس خروج صيفية وقد اكتسى وجهه بسمرة جذابة. رأته كما كانت نساء أثينا يرون آلهتهم من الرجال فائقى الجمال والقوة، رجال أو آلهة من الرجال من سالبى عقول النساء وقلوبهم. تخيلت نفسها امرأة إغريقية فى ساحة نصر وعلى القرب منها بطلها الأسطورى متربعا ظهر حصان، عائدين لتوهما من نصر تاريخى وأكاليل الفخار تعتلى رأس القائد الوسيم. ختمت تهيؤاتها عندما فوجئت بكلمات يرددها عقل احتياطى تحتفظ به لطوارئ من هذا النوع، سمعته يقول «كدت لثوان معدودة أتخيل أمى تتنصت على تأملاتى وتعلق بالعبارة الخبيثة ونصها، نعم هذا هو الرجل».
•••
مرت ساعة أخرى والرجل ما يزال يتحدث. انتهزت صاحبتنا فرصة سكت فيها ليطلب لها مشروبا باردا. اعتذرت عن المشروب واستأذنت للانصراف لعذر غير مقنع. نهضت هى واقفة ولم ينهض هو على الفور. وقفا لثوان متواجهين والعيون متربصة تحاول رصد ما خفى فى هذه اللحظات الدقيقة والأيادى تتلامس للتحية متسببة فى حرج ظاهر. فتح لها الباب وخرج معها مودعا حتى المصعد بينما بدت عيون السكرتيرات غير مصدقة. خرجت من المصعد عند صالة الاستقبال الفخمة، لم تتجه فورا نحو باب الخروج. اختارت مقعدا نائيا لتجلس. أخرجت هاتفها المحمول واستعدت لتكتب نصا. فكرت قليلا ثم هزت رأسها بالموافقة ثم كتبت النص قبل أن تنهض لتستكمل سيرها إلى خارج المكان. استقلت سيارتها وقادتها إلى مكان بعيد عند حافة الحديقة العامة. أوقفت محرك السيارة وجلست ساكتة تفكر وعلى وجهها ابتسامة رضا مختلط بألم بدأ خفيفا، ولكن من نوع تعرفه جيدا، نوع يتصاعد.
هناك عند المكان كان صاحبنا يقرأ نصا وصله للتو على هاتفه. النص قصير ولكن المحتوى وما وراءه كبير وكثير. كتبت إليه تقول «أعتذر عن عدم قبول عرضك للعمل معكم». قرأ الرسالة وهز برأسه آسفا وكأنه يرد عليها قائلا «سبقت. كنت أنوى الاعتذار عن سحب العرض. أسبابك هى أسبابى».