كتب الأستاذ «أسامة الغزالى حرب» فى عموده بجريدة الأهرام أنه عندما أراد حجز مائدة فى أحد المراكب الراسية على شاطئ النيل بالقاهرة أبلغه موظف الحجز بالمطعم ــ وهو مصرى كما يتضح من لكنته ــ أنه يأخذ الطلبات باللغة الإنجليزية، وعندما ذهب إلى المطعم وجد قائمة الطعام مكتوبة بثلاث لغات ليس من بينها اللغة العربية.
وفى الطريق إلى المطعم وعلى امتداد كوبرى أكتوبر كانت لافتات الإعلانات الكبيرة المضيئة كلها باللغة الإنجليزية دون كلمة عربية واحدة.. وهذه اللافتات التى نمر عليها وعلى غيرها مصبحين وممسيين ومعظمها حول المنتجعات السكنية بالقاهرة أو الصيفية بالشواطئ.. وكأن أصحاب الإعلانات لا يهمهم من لا يفهم الإنجليزية ولا يريدونه.
***
لقد عشت هذه الحالة من قبل، حالة انحطاط اللغة العربية وبالتالى الثقافة العربية والنظرة الدونية لهما. فأنا الآن وقد تجاوزت الثمانين ببضع سنين أذكر جيدا كيف كانت حالة المجتمع المصرى خلال فترة الاحتلال الأجنبى. كانت الجاليات الأجنبية تستخدم اللغة الفرنسية وكانت هى لغة التخاطب فى المال والأعمال والتسوق والترفيه.. وكانت الأسر المصرية الثرية تحرص على استقدام المربيات الأجنبيات لأولادهم، وكان الحديث فى البيت باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. وكان الخطأ فى اللغة العربية (العامية) لا يسبب خجلا، بل يتضاحكون بذكره كنوع من الطرائف.
***
وقبل أن يتبادر لذهن القارئ أننى معاد للأجانب ولاستخدام اللغات الأجنبية فالأمر هو عكس ذلك تماما. فأنا مؤمن بأن التنوع الثقافى أو وجود الجاليات الأجنبية والاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية فى المدارس الحكومية والخلطة الكوزموبوليتان التى تضفى على المدن بريقا أخاذا خاصة فى بلد سياحى كمصر هى من أهم عناصر بناء المجتمع المتحضر. ولكن كل هذا لا يعنى إهانة اللغة العربية ونبذها كليا وهزيمتها فى أهم معاقلها.. قاهرة المعز والجامع الأزهر.
سبق أن كتبت مقالا بعنوان «الأسماء لدينا ولديهم»، أشرت فيه إلى أسماء القرى السياحية بالساحل الشمالى التى تجعل الزائر يعتقد أن الإيطاليين والإسبان هم الذين بنوا الساحل، لقد تمكنت منا «عقدة الخواجة» واستحكمت حتى أصبحنا نحتقر ثقافاتنا وتاريخنا وحاضرنا.. ويبدو أنها أصبحت فى الجينات.
***
كان الأجانب هم الذين يديرون الاقتصاد والتجارة والصناعة وحتى الزراعة التى كان يسيطر على تجارتها الأجانب من خلال بورصة مينا البصل الشهيرة بالإسكندرية، وكانت اللغة الفرنسية ــ وليست الإنجليزية ــ هى لغة المال والأعمال بل ولغة التخاطب فى المحال التجارية الكبرى مثل شيكوريل وهانو وصيدناوى وشالون وبنزايون (ابن صهيون) ومئات المحال الصغرى والبوتيكات وسائر المحال المتنوعة من الترزى إلى توكيلات السيارات.. وهكذا أصبح الأجنبى يرمز إلى التقدم والرقى والثراء وأصبحت كلمة «بلدى» (أى وطنى) ترمز إلى كل ما هو قبيح أو مجاف للذوق وهو أمر تنفرد به مصر بين شعوب العالم.. حتى إنهم أوجدوا لهذا الكلمة لفظة باللغة الفرنسية وهى (Mon pays) التى لا يمكن أن يفهما الفرنسى إلا أنها تشير إلى الوطن أو البلد.. فالفرنسى عندما يقول لك (La France est mon pays) فهو يفتخر بهذا الانتماء، لأن هذا الانتماء هو مدعاة للفخر والعزة.
***
هل تذكرون ما فعلته إسرائيل فى سيناء عندما وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلى فى عام 1967؟ إنها قامت بإنشاء مدن ومستوطنات ومنتجعات سياحية أملا فى فرض سياسة الأمر الواقع واقتسام الأرض مع مصر فى أى تسوية قادمة، لم يطلق الإسرائيليون على هذه المنتجعات أو المستوطنات أسماء مستوردة ــ فينيسيا، أو مرسيليا، أو مارابيلا ــ مثل ما نفعل نحن ولكنهم أطلقوا عليها أسماء عبرية ضاربة فى القدم ومنها المستعمرات التى أقيمت فى شمال سيناء مثل «سادوت» بجوار العريش ومثل «ناؤت سيناى» أيضا فى منطقة العريش ثم عندما ازدادت أطماع إسرائيل قامت بإنشاء مدينة «ياميت» التى كانت تخطط لجعلها مدينة ضخمة تستوعب ربع مليون ساكن ويرفق بها مرفأ بحرى ضخم لتصبح ثالث أكبر مدينة ساحلية بعد تل أبيب وحيفا، كما قامت بإنشاء مدينة مشابهة فى شرم الشيخ وأطلقت عليها اسم «أوفيرا» وكان مخططا لها أن تكون عاصمة جنوب سيناء حتى أطلقت إسرائيل على جنوب سيناء اسما عبريا هو«شلومو» كما قامت بإطلاق اسم «شلهفيت» على منطقة آبار البترول فى أبو رديس..
***
لم تكتف إسرائيل بمحاولة «عبرنة» سيناء من خلال إطلاق الأسماء العبرية ومحاولة طمس الأسماء المصرية العربية بل كان لديها إصرار على إدراج هذه الأسماء على خريطة سيناء التى ستلحق بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.. أى أنه حتى بعد انسحابها من هذه المستعمرات وتدميرها جميعا عدا أوفيرا كانت تود أن يظل لتراثها العبرى أثرا على تراب سيناء.
***
أذكر جيدا ــ وكنت مشاركا فى مفاوضات السلام المصرية الإسرائيلية ــ أننا عندما وصلنا إلى موضوع اعتماد الخرائط وفوجئت إسرائيل برفض مصر البات تدوين أى اسم إسرائيلى على خريطة سيناء، أنها تقدمت باقتراح ــ وكأنه تنازل أو حل وسط ــ بالاقتصار على تدوين اسم «أوفيرا» بجوار «شرم الشيخ»، وعندما جوبهت بالرفض المصرى الصارم وتبين لهم أن المعاهدة ستتحطم حول هذه النقطة تقدم موسى ديان وزير الخارجية وعزرا ويزمان وزير الدفاع باقتراح يقضى بعدم الإشارة إلى أى مدينة يقل عدد سكانها عن المائة ألف نسمة وهكذا طبعت خريطة سيناء المرفقة بالاتفاقية وليس بها إشارة إلى أى مدينة سوى العريش.
***
فى المقال الذى أشرت إليه سابقا ــ الأسماء لدينا ولديهم ــ والذى نشر قبل عدة سنوات، تحدثت فيه عن مدى استهانتنا بتراثنا ومدى تمسكهم بتراثهم سعيا منهم لترسيخ التماسك الوطنى والاجتماعى أيضا لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية، وذكرت فيه كيف رفض الوفد الإسرائيلى فى مفاوضات الحكم الذاتى الإسرائيلى أن يتم الاجتماع بفندق فلسطين بالإسكندرية خشية الإيحاءات التى يحملها الاسم وتم فى حينه عقد المفاوضات فى فندق سان ستيفانو. قد سمعت أعضاء الوفد الإسرائيلى وهم يتندرون بأسماء سان ستيفانو حيث تعقد المفاوضات وسان جيوفانى حيث يقام العشاء الرسمى ويقولون وكأننا فى إيطاليا.
***
أنا أعلم أن المقاولين العقاريين يلجئون إلى الأسماء الأجنبية لجذب المشترى الذى هو بدوره يظن أنه يحصل على خدمة راقية ويندمج فى وسط راق وهى حلقة خطيرة ستزداد استفحالا ورسوخا ما لم يتم تداركها بالقانون وبتحرك المجتمع المدنى، وأنا أعتقد أن هناك قانونا يقضى بألا تزيد مساحة اللغة الأجنبية على أى لافتة عن الثلث.. هذا القانون ــ أو القرار لا أذكر على وجه الدقة ــ صدر فى منتصف الخمسينيات بعد انتهاء الاحتلال الإنجليزى لمصر، فليكن تفعيل هذا القانون أو القرار هو الخطوة الأولى نحو استعادة ثقافتنا ولغتنا الجميلة وإنقاذنا من هذا الغثاء.