فى اليوم العالمى للتراث اللامادى التراث والمجتمع - فكرى حسن - بوابة الشروق
الجمعة 18 أكتوبر 2024 8:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى اليوم العالمى للتراث اللامادى التراث والمجتمع

نشر فى : الخميس 17 أكتوبر 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : الخميس 17 أكتوبر 2024 - 7:35 م


ما من شك فى أن مشاركة المجتمع فى كل خطوات إدارة التراث ضرورية من أجل مستقبل أفضل لما للتراث من قيم ومعارف يمكننا أن نستخلصها لنستنير بها فى فهم الحاضر وصياغة المستقبل، ولنهتدى بها فى التأكيد على الاستمرارية والتواصل، ولنستشرف من خلالها الجوانب الخلاقة والابداعية التى تكمن وراء قدراتنا على تحسين الأحوال والاستمتاع بالجياة.
ولكن هذه النظرة للجوانب المضيئة من التراث كانت متوارية خلف الاهتمام الحصرى على المكون الدينى من ناحية، وبالفنون الشعبية التى ظهر الاهتمام بها من خلال إسهامات الدول الأوربية الحديثة فى صياغة «هوية» قومية، من ناحية أخرى. وكان الاهتمام بالتراث من قبل المؤسسات العالمية منصبا بادئ ذى بدء على الآثار والمواقع الأثرية المتميزة ذات الأهمية العالمية كما جاء فى اتفاقية اليونسكو للتراث العالمى 1972. وتلا ذلك الاهتمام بالمبانى التاريخية بهدف الحفاظ عليها. وفى 1992 تنبه اليونسكو لما سمى «اللاندسكيب الحضارى» بمعنى الأماكن والأقاليم التى ساهم الإنسان فى تشكيلها، كما هو الحال فى الواحات ووادى النيل والحدائق والبساتين والمراعى. وفى 1994 تم الإعلان عن وثيقة «نارا» للأصالة التى شددت على الحفاظ على «أصالة» المبانى التاريخية والأثرية كما ظهر اهتمام خاص بما سمى «البيئة المبنية» لتشمل المبانى ومحيطها التاريخى والطبيعى والنسيج الحضرى وشبكات الطرق والتنوع السكنى والصناعى والخدمى، وتلامس هذا مع اتفاقية فينيسيا للشبكة الدولية للمبانى التراثية والعمران 2006.
وكان استخدام مصطلح «الممتلكات الحضارية» (الثقافية) شائعا عندما صيغ إعلان لاهى فى 1954 للحفاظ على الممتلكات الثقافية فى حالة النزاع المسلح.
وكان من أهم ما استُحدث فى مجال «التراث» ما قامت به اليونسكو فى 2003 عندما اعتمدت اتفاقية لصون روائع التراث الشفاهى (القولى) والممارسات والتعبيرات اللغوية المتوارثة كالأمثال والمهارات المعرفية وكذلك الأدوات والمواد والأماكن المرتبطة به، وهو ما تمت الإشارة اليه بالتراث «اللامادى» واطلق اليونسكو هذا العام «اليوم العالمى للتراث اللامادى» ليحتفل بها العالم يوم 17 أكتوبر من كل عام.
ونحتاج فى هذا اليوم أن نتوقف لمراجعة المنظومة الفكرية التى تنطلق من خلالها الاتفاقيات والمواثيق الخاصة بالتراث. خاصة وأن مفاهيم «التراث» بوصفه «ممتلكات» ظهرت فى أوروبا فى إطار الثورة الفرنسية للحفاظ على القصور والحدائق والحصون الحربية والتحف والكنوز التى أصبحت ملكا للشعب/الدولة. وهكذا ظهرت من من خلال الدولة ظهرت مؤسسات لصون وحماية والحفاظ على هذه الكنوز، كما حدث فى مصر بعد ثورة 1952. وامتدت الفكرة لتشمل الآثار من الحضارات القديمة عندما طالبت مصر والسودان بحملة علمية لإنقاذ آثار النوبة، والتى تأسس من خلالها مركز اليونسكو للتراث العالمى. وعندما تضارب مفهوم «الصون» مع إعادة استخدام المبانى أو ترميمها أو إعادة تأهيلها مما قد يطمس ملامحها الأصلية ، ظهرت «وثيقة نارا» وما تلاها من مراجعات. كما كان الاهتمام بصون البيئة الطبيعية نظرا لما يتهددها من أخطار دافعا للاتفاقيات التى وصل عددها حاليا إلى ما يزيد على 3000 اتفاقية دولية. كما كان دافعا للاهتمام بالاندسكيب البشرى.
ومع كل هذا كان الاهتمام فى المجال الأول على «الأشياء» أوحتى المخرجات القولية أو السلوكية المتوارثة فى حد ذاتها ولم يكن هناك اهتمام كاف بما تعنية هذه الأشياء للناس فى حياتهم خارج المتاحف والمناطق الأثرية والمبانى التاريخية والأرشيفات والمخازن.
ولذلك فإن وأحد أهم القضايا التى ينبغى اعتبارها تكمن فى التوصل الى استراتيجية لإدارة التراث الثقافى / الحضارى من منطلق تعميق فهم إشكاليات «التراث» على الصعيد الدولى والإقليمى والقومى والمحلى، وعلى تفعيل دوره فى المحل الأول نحو التنمية المجتمعية المستدامة فى اطار الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، ومنها القضاء على الفقر من خلال التنمية الاقتصادية التى تعتمد على التعليم، ومسكن لائق، ومساواة بدون تمييز، وتوفير بيئة نظيفة. ومن المصادفة أن يكون اختيار يوم 17 أكتوبر يوما عالميا للتراث اللامادى هو أيضا اليوم الدولى للقضاء على الفقر.
ومن هذا المنطلق ينبغى أن نؤكد على الصلة التى تجمع بين المجتمعات والتراث، ويتمثل هذا على وجه الخصوص فى الاهتمام بالنسيج الاجتماعى والبنية المجتمعية التى كان من نتائجها كل ما تبقى من آثار ومأثورات.
كما تستمر الموروثات الثقافية من خلال الممارسات السلوكية، مثل الحج أو السياحة، مغروسة فى مجموعة من القواعد والقيم والأفكار التى انتقلت عبر مجال واسع من نظم الاتصال الشفوية والمكتوبة والمتعددة الوسائط والتى تشمل الروايات الشعبية، مطبوعات الدعاية السياحية، ملاحق السياحة فى الجرائد، الكتب الجماهيرية والأكاديمية، والنصوص الدينية والخطابات السياسية. والسرديات الأدبية أو الشعبية كألف ليلة وليلة أو السيرة الهلالية أو كتب التراث الدينية أو مستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين أو سندباد مصرى للحسين فوزى أو نزول النقطة لجمال الغيطانى.
يتعدى هذا مفهو التراث كتراث «مادى» أو ما يسمى «تراث لا مادى» لأن كليهما تراث ثقافى مجتمعى نشأ فى مجتمعات سالفة واحتفظت به أو إعادة إحيائه مجتمعات لاحقة، كما حدث من إحياء لتراث مصر القديمة من خلال علم المصريات والترويج له من خلال أشعار أحمد شوقى وروايات نجيب محفوظ التاريخية وتمثال نهضة مصر لمحمود مختار. ولذلك يجب ألا يقتصر مفهومنا للتراث «اللامادى» على ما يكافئ «الفولكلور» وأن يتسع مفهومنا للتراث الحى الذى يؤكد على استمرارية التراث المعنوى (الفكرى والقيمى والسلوكى) فى الحاضر من منطلق تفهم للديناميكيات المجتمعية والقيم والأهداف والسرديات التى تتشكل من خلالها نظرتنا إلى ذواتنا والآخرين والعالم.
وهذا التناقض بين الممارسات والقيم الخاصة بالتراث الطبيعى «المادى» والتراث المعنوى قد تم الاعتراف به فى المؤتمر التى نظمته اليونسكو وعقد فى «نارا» اليابان من 20 الى 23 أكتوبر 2004، والذى كنت مقررا له يتطلب إعادة اعتبار التراث الحضارى لمعالجة البقايا المادية للماضى متلازمة مع «مكانها» و«موطنها» و«محيطها» و«الممارسات الاجتماعية» و«الأفكار» التى تجسدها كما يمكن فهمه من خلال التواصل الثقافى والحضارى بين الشعوب.
ولذلك فإن أهم أولويات القائمين على شئون الثقافة والتراث التشارك فى تقديم وعرض وتفسير التراث لتعميق فهم ديناميكيات الحراك الثقافى عبر العصور والاشادة بالقيم التى يمكن أن تساهم فى مجتمع قويم، وتوظيف التراث من خلال إشراك المجتمعات المحلية فى استثمار التراث من خلال مشروعات إبداعية لما يعود عليهم بالنفع اقتصاديا ومعنويا دون الإخلال بالبيئة أو النسيج المجتمعى، والسعى ليصبح التراث بكل أطيافه عنصرا فعالا وحيويا فى المجتمع، ويستدعى هذا مخططا لبناء القدرات.

التعليقات