انتهت بسلام مباراة الذهاب بين مصر والجزائر بالفوز المستحق للفريق المصرى، بعد أيام عصيبة حساسة من التردد والتوقع والتساؤل وانتظار المجهول، تاركة وراءها بعض الجروح ومشاعر المرارة والرغبة فى الثأر التى يخشى أن تظهر آثارها فى الخرطوم. وبدت مصر كلها وكأنها فى يوم امتحان عسير، يفصل القدر فيه مصيرها ويحدد مستقبلها.
ولم تكد تنتهى المباراة بالفوز المؤكد الذى حقق المعجزة بالمفهوم الكروى السائد، حتى انهار السد الذى يحبس وراءه حجما هائلا من المشاعر المكبوتة والأحلام الضائعة والتوقعات الهائمة والحماس غير المحدود.
فإذا الناس تنسى كل الشئون والشجون فى حياتها، إلا ما تمليه «لحظة الكرة»، التى فرضت نفسها على البلاد والعباد، من أكبر رأس فى الدولة إلى أصغر صبى فى حوارى القاهرة، وربات البيوت والفلاحات فى القرى والنجوع.
جاءت فرحة الفوز فى الكرة مثل بالون انفجر فى السماء، فأطلق صواريخ وألعابا نارية ملونة بلون الآمال والأمنيات التى يتمناها الناس على أرض الواقع.
وبدا الحماس بعد النصر وكأنه مكافأة على الجهد الكبير الذى بذلته الجماهير الهادرة فى الشوارع والمقاهى مثل هدف واحد أجمعوا عليه، هو تشجيع الفريق المصرى والتوحد معه حتى النهاية فى مواجهة خصم جزائرى عنيد يمتلك كل مؤهلات الفوز، يلعب فى أجواء وظروف غير مشجعة، وعلى أرض غير أرضه، وبين جمهور ليس جمهوره.
فكرة القدم ليست لعبة منصفة أو فوق التحيز، بل يصعب أن يكون الشخص فيها محايدا أو مجرد متفرج ينحاز للعبة الحلوة كما يقولون.. بل يذهب الشخص إليها منذ البداية وهو عازم على مناصرة فريق بعينه، وقد حشد كل عواطفه ومشاعره وراء النادى أو الفريق الذى يحبه. مستنفرا كل طاقاته وأحاسيسه فى الدفاع عنه ومساندته وتشجيعه.
ولهذا يبدو السؤال صعبا فى بلاد مثل مصر والجزائر.. والسؤال الذى غالبا ما نحدث أنفسنا به، ونحن نرى الحماس الجماهيرى الصاخب الذى يتدفق بغير حدود..
وهو: لماذا نتحمس إلى درجة الجنون من أجل كرة القدم، ولا نتحمس بنفس الدرجة أو قريبا منها فى الانتخابات مثلا.. أو فى تأييد مرشح أو حزب سياسى.. أو فى الدفاع عن قضية اجتماعية والانتصار لمبدأ، لماذا يحدث الاجماع الجماهيرى الساحق عند التحيز للفريق المصرى أو الجزائرى بالحق أو بالباطل، ولا يحدث نفس الاجماع الساحق على تأييد زعيم سياسى أو رئيس أو بطل؟هل هو مجرد شعور بالانتماء القومى فى حالة الكرة، وغير ذلك فى الحالات الأخرى؟..
وإلا فلماذا يبدى الناس استعدادهم للوقوف صفوفا فى انتضار شراء التذاكر ودخول الاستاد، والاستعداد منذ الصباح الباكر لتحمل المشاق من أجل الوصول إلى مقعد غير مريح فى الاستاد، والانتظار بالساعات من أجل أن تقع عيناه على اللاعب والملعب..
غير عابئ بالمرور ولا بتعسف رجال الأمن ولا بالصخب الذى يصم الآذان، بل ربما شارك فيه وأصبح جزءا من كرة ملتهبة بالمشاعر والأحاسيس الجماعية الواعدة بالفوز.. على عكس مشاعر السخط والضيق وهو يقف فى طابور الانتخاب للإدلاء بصوته، أو فى طابور الجمعية أو أمام شباك التذاكر؟
الأمر الذى لا شك فيه أن التحمس لمرشح فى الانتخابات أو لقضية سياسية أو اجتماعية، لا ينتهى الانتصار فيها عادة بجائزة متوقعة بل تذهب نتائجها إلى الشخص أو الحزب أو الجماعة التى حظيت بالتأييد.
وفى الظروق التى يجرى فيها تزييف إرادة الناخبين يصبح الشخص جزءا من عملية التزييف دون أن يدرى. وهو إذ يدرك هذه الحقيقة يفقد نصف حماسه، وإذ يعيش تفاصيل الواقع يفقد النصف الثانى.
وعلى العكس من ذلك تظل لعبة كرة القدم بكل ما فيها من توتر وترقب، ومتعة الفوز والخسارة، هى بحد ذاتها الجائزة التى يتلقاها كل فرد على حدة، وكل شخص بحسب حجم الرهان الذى يضمره فى نفسه. وهو رهان يعتمد على عوامل نفسية تختلط فيها الآلام والآمال.
والتوقعات اليومية التى تلون الحياة وتصنع نسيجها. يتساوى فى ذلك المواطن العادى والمسئول الكبير.
ويبدو أنه كلما تشابهت الرهانات بين أفراد الجماعة، كلما علا صوت الحماس أو نشيج الخوف من الهزيمة، وكلما زاد الخوف من الهزيمة تضاعف الإحساس بالعداء والخصومة للطرف الآخر.
لا تتساوى درجة الإنصاف فى اللعبة السياسية على النحو الذى يتحقق فى لعبة الكرة. حيث يؤدى تغيير الملعب والجمهور والجو العام، إلى تغيير الزمان والمكان، بانتقال مباراة العودة إلى أرض أخرى وبلد آخر، ليتحقق قدر من التعادل بين الكفتين.. وهو ما سوف تحسمه المباراة الفاصلة بين مصر والجزائر فى الخرطوم.
وإذا كانت الأنباء قد تحدثت عن الهيستيريا التى اجتاحت كلا من الجزائر ومصر لنقل آلاف الجزائريين بناء على تعليمات الرئيس بوتفليقة للمشاركة فى تشجيع أو تسخين الفريق الجزائرى، بالطريقة التى رأيناها فى مطار القاهرة، وما تردد عن مشاركة الوزارات والهيئات فى تسفير مشجعين مصريين على طائرات استأجرتها الدولة أو رجال أعمال مصريون، فسوف تظل درجة كفاءة اللاعبين هى الفيصل.
بغض النظر عما تعرض له مصريون من أعمال شغب فى الجزائر، أو ما تعرض له الجزائريون من أعمال شغب فى مصر.. هنا ينفث الناس سموم الغضب والاحباط الذى يولده الاحتكاك الإنسانى ــ وتظهر عقدة «البحث عن العدو» فى بلاد لا ينقصها الأعداء فى كل مكان، ولا يعرف العالم عنها غير العنف والتعصب.