إشكاليتان أساسيتان لبعض مشايخ التيار السلفى مع الديمقراطية: عدم فهمهم حقيقة الديمقراطية كنظام للحكم، واعتماد الغالبية العظمى من جمهور التيار عليهم فى فهم السياسة. هذه مسألة جوهرية عند الحديث عن دمج هذا التيار فى الحياة السياسية، ولكنها ليست عصية على الحل.
ففهم بعض المشايخ للديمقراطية على أنها مذهب غربى يُسند التشريع للبشر دون ضوابط أو مرجعية عليا فهم خاطئ، وأدى بهم إلى الخلط بين الديمقراطية وثلاثة أمور وإلى استنتاج تصورات خاطئة فى شأن الديمقراطية المنشودة بمصر.
●●●
الخلط الأول بين الديمقراطية والعلمانية، التى تعنى عندهم قولا واحدا هو محاربة كل الأديان ونشر الرذيلة. هم يظنون أن النظام الديمقراطى علمانى بالضرورة، وسيؤدى حتما إلى انتشار الموبقات فى مصر. هذا الفهم غير دقيق، فالديمقراطية ــ عند غالبية الباحثين وفى الممارسة الراهنة ــ ليست مذهبا أو فلسفة وإنما نظام حكم له: هدف هو الحد من استبداد الحكام وصيانة كرامة الإنسان وحرياته، ومؤسسات وقواعد تفصيلية لتحقيق هذه الأهداف (أهمها مايتصل بكيفية اختيار الحكام ومحاسبتهم ومراقبتهم وعزلهم عند الضرورة وكيفية صنع السياسات والقرارات ومتابعة تنفيذها)، ولها مرجعية عليا تتفاوت قيمها وثوابتها باختلاف الثقافات والأديان والأولويات. والديمقراطية ليست منتجا غربيا صرفا وإنما ساهمت فى بنائها حضارات مختلفة. أما العلمانية فهى، فى جوهرها، علاج غربى لمسألة غربية، فاستبداد رجال الكنيسة بالعصور الوسطى استتبعه اقصاؤهم كلية عن السياسة، وقد ظهرت العلمانية بأشكال متعددة، بدءا بعاداة الدين صراحة إلى التسامح التام معه.. وما يهمنا فى مصر هو أن الغالبية العظمى من الجماهير ومن القوى السياسية لا تعادى الدين ولا تطالب بإقصائه، بل وهناك إجماع على المادة الثانية وعدم سن قوانين تخالف الشريعة. ومن ثم لا حاجة لنا فى استدعاء العلمانية فى خطابنا العام وزرع فرقة بين الجماهير.
الخلط الثانى بين الديمقراطية ونتائجها أو السياسات التى تفرزها الحكومات الديمقراطية. فتصور البعض أن الديمقراطية هى «شرع الكفار ومنهج وثنى» ويحكم فيها «الفساق والعصاة والكفار والنساء والمحاربون لدين الله» (كما كتب أحدهم) أدى إلى تصورهم أنها ستؤدى حتما لانتشار الإباحية والشذوذ، كما سمعنا أكثر من مرة. واقع الأمر أنه بجانب أن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام، كما أوضح باحثون ومفكرون إسلاميون ثقاة، فإن نتائجها متغيرة، فوجود حكومات ديمقراطية ونخب مسئولة يسهم فى رفاهية دول مثل السويد وكندا والنرويج، أما سيطرة الشركات وجماعات المصالح بالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا فيؤثر بالسلب على سياسات هذه الدول، وقد يؤدى إلى انهيارات مالية باليونان والبرتغال وإيطاليا. وفى الهند وماليزيا والبرازيل وتركيا، ساهم النظام الديمقراطى فى الحفاظ على التجانس السكانى إلى حد كبير ومنع العسكريين من التحكم بالسياسة. ولهذا فنتائج الديمقراطية المنشودة فى مصر ستعتمد، بعد قدرة الله، على وعى الجماهير والنخب وإراداتهم وجهودهم فى ترجمة مطالب الثورة إلى ممارسات سياسية واعية تحمى مصالح المصريين وحرياتهم وتحقق لهم عدالة اجتماعية حقيقية.
والخلط الثالث بين الديمقراطية والسياسة الأمريكية. هم يظنون أن الديمقراطية الأمريكية هى التى أنتجت احتلال فلسطين ودعم الإسرائيليين وغزو العراق والمعايير المزدوجة. واقع الأمر أن لأمريكا سياسة خارجية لصالح الصهاينة نظرا لضعفنا نحن وقوة اللوبى اليهودى، وليس نتيجة لديمقراطيتها. ولا يجب الخلط بين مؤسسات الحكم بالداخل، وبين الإشكاليات التى أفرزتها الممارسات الغربية، خاصة الأمريكية، نتيجة سيطرة الشركات الكبرى واللوبيات وظهور سياسات اقتصادية وخارجية غير عادلة. لكن هناك أيضا منظمات حرة بالغرب تدافع عن القضايا العادلة، يجب التواصل معهم بدلا من إطلاق أحكام عامة على الجميع. وأخيرا هناك ديمقراطيات تقف بالمرصاد لأمريكا ليس بإلقاء الخطب وتهييج الجماهير وإنما بقوة برلماناتها وبمهارات ساستها وخبرائها فى قراءة الواقع والتعامل الواع مع الآخر، والمثل التركى ليس ببعيد عنا.
فهم المشايخ الخاطئ للديمقراطية ما كان يمثل خطرا لولا وجود الإشكالية الثانية، وهى أن جمهور التيار السلفى يعتمد فى فهمه للسياسة على المشايخ، فالناس على فكر مشايخهم. وساعد على ذلك تصدر بعض المشايخ المشهد السياسى (برغم أنهم لم ينضموا للأحزاب)، وتراجع السياسيين المنفتحين، وعدم الإستعانة بالخبراء والمتخصصين، وضعف برامج التثقيف.
●●●
حان الوقت لكى نفهم أنه لا يوجد مشايخ معتمدون يأخذ المسلمون عنهم علاقة الإسلام بالسياسة، وما يقوله أى شيخ فى علاقة الديمقراطية بالإسلام هو فهم بشرى للإسلام وليس الإسلام ذاته. وفى مقابل اجتهاد كل شيخ، هناك عشرات الاجتهادات الأخرى أدعو أتباع التيار السلفى الكرام إلى الاطلاع عليها والتفاعل معها بعقلية واعية ونقدية. فالإنسان عدو ما جهل والحكمة ضآلة المؤمن، والحق أحق أن يتبع، ولن ينصلح حالنا ما دمنا نستمع لرأى واحد.
ويقينى أن ممارسة التيار السلفى للسياسة ستضيف رصيدا جديدا للحياة السياسية إذا فهم جمهور التيار السلفى الديمقراطية على حقيقتها، واقتنعوا أن موقفهم من الديمقراطية يجب ألا يُترك للمشايخ وحدهم. واعتقادى أنهم سائرون فى هذا الطريق. إنها مسألة وقت.