نشر المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية تقريرًا بعنوان «حدود التغير فى مصالح واشنطن فى منطقة الشرق الأوسط»، تناول فيه ركيزة استقرار علاقات الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الاوسط؛ وهى القدرة على التوصل إلى تفاهمات مع حلفائها فى المنطقة، والوفاء بالتزاماتها تجاه أمن الخليج دون الاضطرار إلى الخيار العسكري.
كان التقرير قد ارتكز فى تحليله لتغير سياسات الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط على كلمة تشاك هيجل، وزير الدفاع الأمريكى، فى مؤتمر حوار المنامة، الذى عقد خلال الفترة من 6 إلى 8 ديسمبر الحالي، الذى أكد خلالها استمرار اهتمام إدارة باراك أوباما بمنطقة الشرق الأوسط، لا سيما منطقة الخليج، ولكن وفق قواعد جديدة، تتلاءم مع التوجهات العامة لهذه الإدارة. إلا أنها كشفت عن تغير، ربما مرحلي، ليس فى مصالح واشنطن فى المنطقة فحسب؛ بل فى أولوياتها أيضًا.
ترجع أهمية كلمة هيجل فى مؤتمر حوار المنامة، إلى كونها حملت رسائل واضحة، حول قواعد جديدة لانخراط واشنطن فى تفاعلات المنطقة، قد يكون الهدف من ذلك تجنب أى توتر محتمل فى العلاقات مع حلفائها، على غرار التوتر الذى حدث مع السعودية على خلفية الموقف من الصراع فى سوريا. وتتمثل هذه الرسائل فيما يلي:
• أكد هيجل استمرار سياسة «الانخراط» Engagement، التى تتبعها واشنطن مع دول المنطقة، سواء على المستوى الدبلوماسى أو الأمنى أو العسكري، وبالتالى الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة بصورة مستمرة مع كل دول المنطقة، بما فى ذلك تلك التى سبق وتعاملت معها إدارات سابقة على أنها دولة «عدو» أو «أحد أضلاع محور الشر»، على غرار إيران.
• حملت الكلمة رسالة أخرى مفادها الالتزام بتأمين الخليج، رغم الانفتاح على إيران، إذ إن توقيع اتفاق جنيف النووى مع ايران، لن يترتب عليه تخلى واشنطن عن التزامها بتأمين منطقة الخليج، أو تساهلها مع التهديدات التى توجهها إيران إليه، فهى مسألة «غير قابلة للتفاوض»، أيًا كانت الإدارة الأمريكية الموجودة. وخطّ هيجل سياستين لتأمين الخليج: الأولى: استمرار وجود القوات الأمريكية فى الخليج والمناطق المحيطة به، والتى يفوق عددها 35 ألف جندى أمريكي، إلى جانب دبابات ومروحيات أباتشى ونحو أربعين سفينة ومنظومات للدفاع الصاروخى ورادارات متطورة وطائرات مراقبة بدون طيار. أما الثانية؛ التزام واشنطن بتطوير القدرات العسكرية لدول الخليج، من خلال مبيعات السلاح، والتدريبات المشتركة مع قواتها.
• أشارت كلمة هيجل إلى أولوية الدبلوماسية فى علاج مصادر تهديد أمن المنطقة، بالتعاون مع الأصدقاء والحلفاء، دون أن يعنى ذلك استبعاد الأداة العسكرية كلية، فاعتماد الدبلوماسية مع إيران يجب عدم إساءة فهمه، مؤكدا تلازمه مع القدرة العسكرية للولايات المتحدة. كما حرص هيجل على توضيح أن واشنطن تدرك أن تهديد إيران لأمن منطقة الخليج، لا يقتصر على الجانب النووى فقط، فهناك مشكلة الصواريخ الإيرانية، التى أكد هيجل حرص الولايات المتحدة على معالجتها من خلال التزامها بالدرع الصاروخية.
•••
وقد خلص التقرير إلى وجود تغير فى مصالح واشنطن فى منطقة الشرق الأوسط، مع عدم توقعه درجة استمراريتها، كذا الحال بالنسبة لتلازم هذا التغير مع تغير السياسات. وقد أشارت المقالة إلى تناول هيجل لأربع مصالح استراتيجية رئيسية لواشنطن، تشمل الدفاع عن حلفائها فى مواجهة أى اعتداء خارجي، وضمان تدفق حر للطاقة والتجارة، وتفكيك الشبكات الإرهابية، ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل. لقد نوهت كلمة هيجل إلى تراجع أهمية قضية السلام فى الشرق الأوسط، والتى سبق أن ضمنها فى خطابه بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى فى مايو الماضي. وفى إطار هذه المصالح الأربع، تتحدد أولويات واشنطن فى المدى المتوسط، لتكون مكافحة الإرهاب، وهو ما تكشف عنه سياسات واشنطن تجاه سوريا، حيث لم تسع لإسقاط نظام الأسد، وعملت على وقف الإمدادات لبعض الجماعات المتطرفة، وكذلك منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهو ما يفسر حرص واشنطن على إنجاح المفاوضات مع إيران، والتى تكللت بالتوصل إلى اتفاق جنيف النووى فى 24 نوفمبر الفائت.
يتنازع تفسير هذا التغير فى أولويات وسياسات واشنطن فى المنطقة اتجاهان: يرى الأول أن واشنطن دخلت مرحلة «التراجع»، كقوة مهمة فى المنطقة، حيث فشلت فى الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات للفلسطينيين، كما عزفت عن توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا، وتبنت نهج الحوار، بسبب التغيير الذى طرأ على استراتيجية الانخراط العسكرى فى الخارج التى تتبعها واشنطن مؤخرًا، نتيجة القيود الواردة على الإنفاق العسكري، وتوجهها لعدم التورط عسكريًا فى الشرق الأوسط بصفة عامة، وهو ما انعكس بشكل واضح فى موقفها من الصراع فى سوريا. فيما يشير الاتجاه الثاني، إلى تفضيل واشنطن خيار «التكيف» مع التحولات الاستراتيجية فى المنطقة والعالم، من خلال الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية فى المنطقة بأقل تكلفة ممكنة، وتقليل أعبائها الخارجية، والسماح لفاعلين إقليميين بتحمل مسئولياتهم من دون أن يؤثر ذلك على مكانتها كقوة مهمة فى المنطقة، فالولايات المتحدة لن تنسحب من المنطقة، كما أن روسيا لا تمثل بديلا لها، رغم تعدد الأدوار المؤثرة التى أصبحت الأخيرة تلعبها فى المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا التى استعصت على الحل طوال الفترة الماضية.