بعد أيام قليلة من أحداث باريس البشعة صدر عن الاتحاد الأوروبى تقرير تقييم لما يعرف بخطة أو سياسة الاتحاد الأوروبى مع دول الجوار.
بنيت هذه السياسة على عدد من مبادرات تعامل الاتحاد مع أعضاء مجموعة تضم ست عشرة دولة مجاورة.
من هذه المبادرات الشراكة المتوسطية الأوروبية والاتحاد من أجل المتوسط والشراكة من أجل الديمقراطية والرخاء والشراكة الشرقية ومجموعة البحر الأسود. كان الهدف من جميع هذه المبادرات ومن وثيقة «سياسة الاتحاد تجاه دول الجوار»، بناء حلقة من دول مستقرة فى منطقة الجوار تحظى بحكومات جيدة. هذه الدول المجاورة موضوع المشاركة تمتد من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى شرق أوروبا وجنوب القوقاز.
***
يعترف التقرير الصادر بعد أحداث باريس بفشل الاتحاد فى تحقيق الهدف، ويقر فى الوقت نفسه بأن النموذج الأوروبى ليس صالحا للتطبيق فى معظم دول الجوار. يقر أيضا بأن فكرة انتقال الديمقراطية أشد تعقيدا عند التنفيذ مما تصور واضعو السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى. كان واضحا لمن تابع تطور جهود الاندماجيين الأوروبيين على مدى سنوات، أنهم صاروا أقرب من أى وقت مضى إلى الاقتناع بأن انتقال الديمقراطية من أوروبا إلى دول الجوار عملية محفوفة بكثير من المحاذير والاخطار. ليس خافيا على المتابعين لأزمات الاتحاد الداخلية والخارجية أن أحداث فرنسا مرتفقة بالهجرة الواسعة كانت من أهم أسباب الوصول إلى قناعة الفشل، بل لقد خرج من صفوف المسئولين عن الاتحاد من يعلن أنه ربما كانت سياسة الاتحاد تجاه أوكرانيا، وهى السياسة المنبثقة عن وثيقة ومبادئ خطة السياسة الأوروبية تجاه دول الجوار عموما، مسئولة بشكل مباشر عن تدهور علاقات الاتحاد الأوروبى بروسيا، وبالتوتر الأمنى والعسكرى المتصاعد والذى انعكس بعد ذلك فى شكل «هجوم» دبلوماسى وعسكرى روسى ضد مصالح مباشرة وتقليدية للغرب فى الشرق الأوسط.
***
ليست هذه المرة الأولى التى يصرح فيها قادة فى الاتحاد الأوروبى عن فشل الاتحاد فى وضع سياسة خارجية موحدة للدول الأعضاء يذكرنى هذا بإعلان قادة العرب بين الحين والآخر عن غياب سياسة عربية موحدة بعد سبعين عاما من مسيرة متحفظة «للعمل العربى المشترك»، الفرق بين الموقفين هو فى أنه بينما يعترف الساسة الأوروبيون بمسئوليتهم عن الفشل، ويشرحون للرأى العام الأوروبى أسبابه، يتنصل المسئولون العرب من مسئوليتهم، مكتفين بإشارات ملتوية وشديدة العمومية عن « هؤلاء العرب» كما لو كان هؤلاء ليسوا عربا وأولئك المقصرون عرب. هذا القول يتكرر دائما فى خطب المسئولين العرب عن «العرب الآخرين » ومسئوليتهم عن عدم تنفيذ التزاماتهم وقراراتهم، أو عن خلافاتهم وانقساماتهم، من دون أن يعترف واحد منهم بأنه شريك فى المسئولية المباشرة عن سوء الأداء العربى المشترك.
***
هناك صعوبات حقيقية تواجه المسئولين عن تنسيق السياسات الخارجية للدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى وعن وضع سياسات موحدة أو مشتركة تجاه دول الجوار. هناك أولاً صعوبات خارجة عن إرادة الاتحاد الأوروبى، مثل أحوال دول الجوار. يتصدر هذه الصعوبات المشكلات المتعلقة بتقييد الحريات الشخصية للمواطنين فى معظم دول الجوار، واستخدام حكوماتها الإرهاب ذريعة ضد المعارضة السياسية. يشترك فى صدارتها قيام بعض الحكومات العربية خاصة والأجنبية أيضا بتمويل إرهاب مضاد لإرهاب قائم، وهو الأمر الذى تشهد عليه الأحوال المتردية فى سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها. يتصدرها أيضا وجود مصالح داخلية فى معظم الدول العربية ثابت قطعا استفادتها من استمرار الحالة الإرهابية فى الشرق الأوسط وبخاصة فى الدول ذات الشأن.
تقف هذه الصعوبات وغيرها كعقبات رئيسة فى وجه تنفيذ أى مخطط لمحاربة الإرهاب يضعه المسئولون فى الاتحاد بالإضافة إلى أن المنطقة التى تضم دول الجوار تشهد حالة من الغضب الشعبى، لأسباب تتعلق بالغلاء والفقر المتفاقم والاستبداد، والفشل أو التباطؤ المتعمد من جانب أغلب حكومات الشرق الاوسط إجراء إصلاحات دينية حقيقية لأسباب لم تعد خافية على العقل السياسى فى دول الغرب. الكل تقريبا، وأقصد كل أو الغالبية العظمى من حكام المنطقة يستخدمون الدين بما يخدم مصالحهم حتى وإن تسببوا فى الإضرار بالدين نفسه.
***
أما الصعوبات من داخل الاتحاد الأوروبى التى تواجه صانعى سياساته الخارجية فهى أيضا كثيرة ولا تبشر بحلول قريبة. هناك مثلاً عجز حقيقى فى قدرة الدول الأوروبية على زيادة أسباب قوتها وتحقيق منعتها. هذه الدول كانت ترفض بإصرار زيادة نصيبها فى ميزانيات الدفاع الإقليمى سواء من خلال الناتو أو خطط تعاونية أوروبية. كانت الحجة الذائعة هى أن الاتفاق على التسلح يعطل الانتعاش الاقتصادى، وقد يدفع إلى سباق تسلح أوروبا فى غنى عنه. هناك أيضا مشكلة مسئولية حماية الحدود الخارجية للاتحاد. هذه المشكلة كانت دائما موجودة، ولكنها برزت بوضوح شديد مع تدهور العلاقة مع روسيا ومع ظهور داعش ثم خلال لحظات المواجهة مع قوافل الهجرة المكثقة.
يحدث هذا فى وقت تزداد فيه قوة تيارات التطرف اليمينى وأغلبها يحمل عداء شديدا للإسلام والدول الإسلامية والمسلمين بشكل عام. إنه العداء الذى يضع قيودا عديدة على حرية المسئولين فى الاتحاد الأوروبى عند وضع خطط لسياسة خارجية موحدة أو سياسات متقاربة تجاه دول الجوار.
***
أستطيع تلخيص الحال الراهنة المحيطة بعمليات صنع سياسات خارجية أوروبية فى كلمات قليلة. أوروبا الآن أضعف قوة وأقل نفوذا وإرادة مما كانت عليه قبل عشر سنوات. إن ازدواجية المعايير التى تتهم بها الحكومات الأوروبية، هى فى حقيقة أمرها دليل ونتيجة ضعف هيكلى فى معظم دول أوروبا الغربية. إن الدولة التى يتعامل حكامها بمعايير مزدوجة فى سياساتهم الخارجية دولة عاجزة عن فرض معاييرها وقيمها، أو على الأقل غير متحمسة للتمسك بهما. لقد أدى فشل الاتحاد الأوروبى فى نقل نموذجه إلى الدول المجاورة إلى أن لجأت حكوماته إلى المعايير المزدوجة تستخدمها لحماية مصالحها فى علاقاتها الثنائية مع دول الجوار. بمعنى آخر ضحت الدول الأوروبية بالمصالح الأيديولوجية والأخلاقية، التى التزمت باحترامها كـ«أعضاء فى الفكرة الأوروبية»، من أجل مصالح عاجلة. أعتقد أن هذه الحكومات ما كانت لتلجأ إلى هذه التضحية لو كانت أوروبا فاعلا قويا فى النظام الدولى وكانت الدول الأعضاء منفردة أقوى مما هى عليه الآن.
***
من ناحية أخرى، ظهرت فى الآونة الأخيرة ثم تفاقمت عقبة كبيرة. إذ ازدادت وتيرة التدخل الخارجى من جانب دول إقليمية ودولية فى شئون دول جوار الاتحاد الأوروبى على حساب نفوذ أوروبا ومواقعها التقليدية فى الشرق الأوسط. هناك بدون شك اختراق متزايد وخطير من جانب روسيا والصين، وتركيا وإيران ودول الخليج العربى لمعظم دول الجوار، سواء فى شرق أفريقيا أو غرب آسيا، ويمتد الآن متوسعا ومتعمقا فى مناطق تقع على هامش الجوار، كمناطق الساحل فى غرب أفريقيا وفى شرق أفريقيا ووسط آسيا. المؤكد لدى المسئولين فى الاتحاد والمنظرين لسياساته الخارجية وقضاياه الأمنية والمؤكد لدينا فى الوقت نفسه، أن معظم هذه الاختراقات تحمل أفكارا وسياسات ومبادئ يتناقض أكثرها مع منظومة قيم ومصالح دول الاتحاد الأوروبى، فضلاً عن أنها تأتى أحيانا مرتبطة بشروط تلغى الشروط المتضمنة فى مبادرات وبرامج التعاون الأوروبى مع دول الجوار. أحيانا تأتى بدون شروط أيديولوجية أو سياسية، فتبدو أكثر قبولاً لدى المسئولين فى دول الجوار الستة عشر، الذين يقارنونها بالشروط الأوروبية المعلنة أو الكامنة.
لا جدال فى أن الاتهامات المتبادلة بين دول الجوار ودول الاتحاد الأوروبى لها ما يسندها فى تطورات العلاقة بين دول المجموعتين، وهى فى حد ذاتها دليل قوى على أن جل أطراف العلاقة يعانون من أعراض ضعف شديد.