ماذا حدث للقوة الناعمة؟ - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا حدث للقوة الناعمة؟

نشر فى : الثلاثاء 18 يناير 2022 - 9:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 يناير 2022 - 9:15 م
نشر موقع بروجيكت سينديكيت مقالا لجوزيف ناى يرى فيه أن انتشار الصراعات والتوترات العالمية لا يعنى تراجع الدول عن استخدام القوة الناعمة، ويوضح كيف أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين على القوة الناعمة مازال موجودا... نعرض منه ما يلى:
مع اقتراب نهاية عام 2021، كانت روسيا تحشد قواتها بالقرب من حدودها مع أوكرانيا؛ وكانت الصين تنقل طائرات عسكرية نفاثة بالقرب من تايوان؛ وكانت كوريا الشمالية مستمرة فى متابعة برنامج الأسلحة النووية؛ وكان مقاتلو حركة طالبان يُـسَـيِّـرون دوريات فى شوارع كابول. سألنى أصدقاء شاهدوا كل هذا: «ماذا حدث للقوة الناعمة؟».
تتمثل إحدى الإجابات فى أن القوة الناعمة يمكن العثور عليها فى أحداث أخيرة أخرى، مثل قمة الديمقراطية الافتراضية التى عقدها الرئيس الأمريكى جو بايدن، والتى حضرها ممثلون من أكثر من 100 دولة. لجأت الصين، التى استُـبعِـدَت من المؤتمر، إلى موجات الأثير ووسائط التواصل الاجتماعى لتعلن أنها تتبنى نمطا مختلفا وأكثر استقرارا من الديمقراطية عن ذلك الذى تمجده الولايات المتحدة. كان ما نراه منافسة بين القوى العظمى على القوة الناعمة، والتى تُـفـهَـم على أنها القدرة على التأثير على الآخرين عن طريق الجاذبية والاستهواء وليس الإكراه أو المكافأة.

•••
عندما كتبت عن القوة الناعمة لأول مرة فى عام 1990، كنت أسعى إلى التغلب على نقص فى كيفية تفكير المحللين فى القوة بشكل عام. لكن هذا المفهوم اكتسب تدريجيا صدى من نوع سياسى. الواقع أن الـفِـكر الأساسى الذى يقوم عليه هذا المفهوم ليس جديدا من بعض الجوانب؛ فمن الممكن تتبع مفاهيم مماثلة إلى فلاسفة قدماء مثل لاو تسى. ولا تتعلق القوة الناعمة بالسلوك الدولى أو الولايات المتحدة فحسب. إذ تمتلك العديد من الدول والمنظمات الصغيرة أيضا القدرة على الجذب؛ وفى الأنظمة الديمقراطية، على الأقل، تعتبر القوة الناعمة مكونا أساسيا للقيادة.
مع ذلك، أصبح هذا المفهوم الآن مرتبطا فى عموم الأمر بالعلاقات الدولية. مع تطور الاتحاد الأوروبى إلى هيئته الحالية، استخدم القادة الأوروبيون هذا المصطلح على نحو متزايد. ومنذ عام 2007، عندما أعلن الرئيس الصينى هو جين تاو أن الصين يجب أن تطور قوتها الناعمة، استثمرت الحكومة مليارات الدولارات فى هذا المسعى. ويتمثل التحدى الذى يواجه الصين الآن فى تنفيذ استراتيجية فَـعـالة تقوم على القوة الذكية. إذا تمكنت من الجمع بين قوتها الصارمة المتنامية وقوتها الناعمة بشكل فَـعـال، فسوف تقل احتمالية أن تستفز الصين ضرورة إنشاء تحالفات موازِنة.
القوة الناعمة ليست المصدر الوحيد أو حتى الأهم للقوة، لأن آثارها تميل إلى أن تكون بطيئة وغير مباشرة. لكن تجاهلها أو إهمالها خطأ استراتيجى وتحليلى جسيم. لم تكن قوة الإمبراطورية الرومانية تعتمد على جحافلها العسكرية فحسب، بل كانت تستند أيضا إلى جاذبية الثقافة الرومانية والقانون الرومانى. على نحو مماثل، كان الوجود الأمريكى فى أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، كما وصفه محلل نرويجى ذات مرة، «إمبراطورية بالدعوة». لم يسقط سور برلين بوابل من القذائف المدفعية؛ بل أزالته مطارق وجرافات بأيدى أشخاص لمستهم القوة الناعمة الغربية.
أدرك القادة السياسيون الأذكياء منذ فترة طويلة أن القيم من الممكن أن تخلق القوة. إذا تمكنت من جعلك تريد ما أريد، فلن أضطر إلى إجبارك على فعل ما لا تريد أن تفعل. وإذا كان بلد ما يمثل قيما يجدها آخرون جذابة، فسوف يكون بوسعه أن يقتصد فى استخدام العصا والجزرة.
تأتى القوة الناعمة التى يتمتع بها أى بلد بشكل أساسى من ثلاثة مصادر: ثقافتها؛ وقيمها السياسية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان (عندما تدعمها)؛ وسياساتها (عندما تُـرى على أنها مشروعة لأنها تدور فى إطار من الوعى بمصالح الآخرين). تستطيع أى حكومة أن تؤثر على الآخرين من خلال العمل كقدوة فيما يتصل بالكيفية التى تتصرف بها فى الداخل (بحماية حرية الصحافة والحق فى الاحتجاج على سبيل المثال)، وفى المواقف الدولية (بالتشاور مع الآخرين وتعزيز التعددية)، ومن خلال سياستها الخارجية (بالترويج للتنمية وحقوق الإنسان).

•••
أثناء جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيدــ19)، حاولت الصين استخدام ما يسمى «دبلوماسية اللقاح» لتعزيز قوتها الناعمة، التى تضررت بسبب تعاملها المتكتم مع الفاشية الأولية لفيروس كورونا فى ووهان. كانت الجهود التى تبذلها الحكومة ترمى إلى تعزيز مبادرة الحزام والطريق، التى تدعم مشاريع البنية الأساسية فى العديد من أجزاء العالم.
لكن استطلاعات الرأى تُظهِر أن النتائج كانت مخيبة للآمال. بمقاييس الجاذبية، تتخلف الصين عن الولايات المتحدة فى جميع القارات باستثناء قارة إفريقيا، حيث يتعادل البَلَدان. أحد الأسباب وراء تدنى مستوى القوة الناعمة الصينية هو استخدامها الفظ للقوة الصارمة فى سعيها وراء سياسة خارجية قومية على نحو متزايد. وكان هذا جليا واضحا فى عقابها الاقتصادى لأستراليا وعملياتها العسكرية على حدود الهيمالايا مع الهند.
الواقع أن الصين تواجه مشكلة فى التوصل إلى معادلة القوة الذكية. فمن الصعب ممارسة دبلوماسية اللقاح و«دبلوماسية المحارب الذئب» (العدوانية والاستئساد القسرى على البلدان الأصغر حجما) فى ذات الوقت.
صحيح أن استطلاعات الرأى الدولية أظهرت أن الولايات المتحدة عانت هى أيضا من تراجع قوتها الناعمة أثناء فترة رئاسة دونالد ترامب. لكن من حسن الحظ أن أميركا أكثر من مجرد حكومتها. فعلى النقيض من أصول القوة الصارمة (مثل القوات المسلحة)، تكون العديد من موارد القوة الناعمة منفصلة عن الحكومة ولا تستجيب لأغراضها إلا جزئيا. على سبيل المثال، تُـلـهِـم أفلام هوليود التى تسلط الضوء على نساء مستقلات أو أقليات محتجة آخرين فى مختلف أنحاء العالم. وينطبق هذا أيضا على العمل الخيرى الذى تزاوله المؤسسات الأمريكية وحرية الاستقصاء والتساؤل فى الجامعات الأمريكية.
تعمل الشركات، والجامعات، والمؤسسات، والكنائس، وحركات الاحتجاج على تطوير قوة ناعمة من إنتاجها. فى بعض الأحيان، تعمل أنشطتها على تعزيز أهداف السياسة الخارجية الرسمية، وفى أحيان أخرى تتعارض معها. فى كلتا الحالتين، تشكل مصادر القوة الناعمة الخاصة هذه أهمية متزايدة فى عصر وسائط التواصل الاجتماعى.
من المؤكد أن تمرد السادس من يناير الذى شهده مبنى الكابيتول الأمريكى أضر بالقوة الناعمة الأمريكية. لكن ينبغى لأولئك الذين يتفجعون على وفاة الديمقراطية الأمريكية قبل الأوان أن يضعوا فى حسبانهم أن انتخابات 2020 اجتذبت إقبالا غير مسبوق على صناديق الاقتراع على الرغم من الجائحة. لا يزال الشعب الأمريكى قادرا على خلع زعيم فى انتخابات حرة ونزيهة.
لا يعنى هذا أن كل شىء على خير ما يرام فيما يتصل بالديمقراطية الأمريكية أو قوة أميركا الناعمة. لقد تسبب أداء ترامب فى تآكل العديد من المعايير الديمقراطية التى يجب أن تستعاد الآن. وقد جعل بايدن تعزيز قوة الديمقراطية فى الداخل والخارج هدفا لرئاسته، لكن النتائج لم تظهر بعد.
لا أحد يستطيع أن يجزم بأى قدر من اليقين بشأن مسار القوة الناعمة فى أى بلد فى المستقبل. لكن ليس هناك من شك فى أن التأثير من خلال الجاذبية سيظل أحد المكونات المهمة فى السياسة العالمية. ذات يوم، قال مارك توين ساخرا: «إن التقارير حول موتى مبالغ فيها إلى حد كبير». ينطبق ذات الأمر على القوة الناعمة.

النص الأصلي

التعليقات