نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة آمال موسى، تقول فيه إنه بالرغم من معاناة الإنسانية كثيرا فى الثلاث سنوات الأخيرة جراء أحداث مربكة (الجائحة ــ الحرب الروسية الأوكرانيةــ الزلزال المدمر فى سوريا وتركيا) ، إلا أن هناك درسيْن يمكن استخلاصهما لنستعد لهكذا أزمات؛ الأول تقوية دور الدولة الاجتماعى، والثانى أهمية دور المجتمع المدنى... نعرض من المقال ما يلى:
لا شك فى أن وتيرة الأحداث والتغييرات التى شهدها العالم فى السنوات الثلاث الأخيرة سريعة ومفاجئة بشكل خاص جدا. طبعا ندرك جيدا أن العالم دق لحظة التغييرات من تاريخ حرب الخليج الأولى، ومثّلت أحداث 11 سبتمبر 2001 النقطة المفصلية فى مسار المرحلة الجديدة القسرية التى خلطت أوراق العالم، وأعادت إنتاج كل شىء على نحو ما زلنا نعانى تبعاته، والتحقت بذلك تداعيات أخرى، وتعقّد الوضع إلى درجة ضاعت فيها القدرة على التوقع على المدى القريب. بل إنه حتى الخطة الأممية للتنمية المستدامة، سيعترف القائمون عليها الذين يقيسون درجة التقدم فى تجسيد الأهداف، بأن الأحداث المفاجئة التى حصلت مع الأسف بدلا من أن تقلص من عدد الذين هم خلف الركب فإن أعدادهم تضاعفت، ومن ثمّ فإن أول شىء سيقع عند بلوغ لحظة التقويم فى سنة 2030 هو تغيير السقف الزمنى ورزنامة الأهداف.
لقد عرفت السنوات الثلاث الأخيرة أحداثا فعلا مُربكة، أولها الجائحة التى مثّلت نقطة حاسمة، وتجربة صعبة مليئة بالدروس، ثم الحرب الروسية الأوكرانية ذات التداعيات الاقتصادية الوخيمة على شعوب شتى، وصولا إلى الزلزال المخيف والقاهر الذى عصف بأرواح أكثر من 30 ألف شخص من أطفال ورجال ونساء فى تركيا وسوريا.
أبسط استنتاج يمكن النطق به، هو أن الإنسانية عانت كثيرا فى السنوات الثلاث الأخيرة، رغم أن السنوات الأخيرة التى سبقتها لم تكن سهلة، وعرفت دول كثيرة مرارة الإرهاب وجبنه، وعاشت شعوب إخفاقات الثورات وإرباكاتها، ولم تكن التحولات التى رافقت عمليات التغيير السياسى سهلة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة. ولسنا نبالغ لو قلنا إن الحديث اليوم فى كل العالم عن طبقة وسطى أصبح حديثا يجانب الواقع.
إن تكلفة الأحداث المفصلية والتجارب الصعبة التى عرفها العالم ضخمة ومست الأبعاد كافة، سواء النفسية والاقتصادية والاجتماعية. وكانت هذه الأحداث رغم هذه التكلفة الباهظة والموجعة، حيث إن الجائحة أوجعت الإنسان فى عمق روحه ووجدانه، وزلزال سوريا وتركيا كان قاسيا وموجعا بكل المعانى، فإن الدروس الكبرى المستخلصة يمكن تحديدها وتبويبها فى عناصر ومحاور كبرى، باعتبار أن ضخامة الأحداث تفرض ذلك آليا.
ويبدو لنا أن الدرسين الأول والثانى، هما أن الإنسانية تحتاج من هنا فصاعدا إلى مصدرين للقوة، وذلك للتصدى للأزمات، وهما: الدولة والمجتمع المدنى.
لقد أصبح من المستعجل بعد أحداث السنوات الأخيرة بناء خطاب دولى يدافع بشراسة عن الدولة ذات الدور الاجتماعى، بنفس الشراسة التى تم فيها الدفاع عن الليبرالية المستوحشة. ولن تستطيع أى دولة أن تقوم بدورها الاجتماعى إلا إذا كانت قوية فى إدارة خلق الثروة، والإشراف على ذلك بشكل يضمن حقوقها؛ لأن تلك الحقوق هى حقوق الفقراء، والذين يمكن أن يجدوا أنفسهم فقراء فى لحظة ما. ومن دروس الثلاث سنوات الماضية أن الفقر حدث طارئ يمكن أن يصاب به حتى من كان غنيا. ذلك أن الحديث عن إفلاس المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وغلق كثير من المؤسسات المتوسطة والكبرى جراء جائحة «كوفيد»، يعنى عمليا أن أعداد الفقراء قد زادت. وعندما تتهاطل هذه التداعيات، فإن الحل يكون من مشمولات الدولة، الشىء الذى يحتم أن تكون قوية، وأن تكون لديها موارد ضخمة؛ كى تتمكن من أداء واجباتها فى الطوارئ. وفى الحقيقة أكبر دور تظهر فيه الدولة وظيفتها ونجاعتها هو الدور الاجتماعى الذى سيظل مطلوبا حتى لو تم القضاء على الفقر ولم يعد فى العالم عاطلون عن العمل، حيث إن الأزمات خصوصا الطبيعية منها من أسباب قوتها وقسوتها أنها تخلط أوراق الواقع، وتفسده على نحو يتغير فيه الواقع نفسه، وتظهر مشكلات لم تكن فى الحسبان.
إذن الدرس الأول أنَّ خطاب تراجع دور الدولة الذى ساد فى العقدين الأخيرين قد أثبتته الأحداث والأزمات، خصوصا أنه ليس فى صالح الشعوب. وأظهر الواقع أن قوة الدولة فى دورها الاجتماعى فى زمن الأزمات. من ناحية ثانية أكدت هذه الأزمات أن المجتمع المدنى له دور حيوى أيضا، وذلك لما يقوم به اجتماعيا من دعم ومساعدات للناس ضحايا الأزمات والمتضررين منها. فاللحظة اليوم اجتماعية فى العمق، وكل حديث عن التداعيات الاقتصادية للأزمات إنما هو فى الحقيقة حديث عن أفراد ستزداد هشاشتهم، وعن أسر معرّضة لشتى أنواع الأزمات والهزات، التى ستعبر عن نفسها فى التوتر والعنف والطلاق وانقطاع الأطفال عن الدراسة والانحراف.. لذلك فإن الرهان فى دولنا العربية اليوم على المجتمع المدنى من المهم أن يتكثف باعتبار دوره الاجتماعى فى الأزمات أيضا.
إن إدارة الأزمات كما أظهرت دروس السنوات الأخيرة تجعلنا أكثر ثقة وإصرارا فى المطالبة بأن تظل الدولة قوية، وأن تحافظ على موارد قوتها، وأن يتصاعد دور المجتمع المدنى ليكون شريكا فى إدارة أى أزمة يمكن أن تحصل. هكذا نعد العدة للأزمات وبأشياء أخرى طبعا.