ما هو الإنجاز الأكبر الذى حققناه نحن المصريين على مدى نصف القرن الأخير؟
أرجو ألّا تغضبك الإجابة: زاد عددنا من 25 مليون نسمة عام 1950 إلى أكثر من 85 مليون نسمة فى 2012.
طبعا أنشأنا مصانع ومدارس وجامعات ومدنا سكنية ومترو الأنفاق، لكن ذلك كله لم ينقلنا من دولة نامية إلى دولة متقدمة، بل إن كثيرا مما حسبناه تطورا فى بنى المؤسسات، تراجع بفعل التحولات السياسية التى شهدناها منذ قيام الثورة حتى اليوم، ولأسباب عديدة، لا مجال هنا للخوض فيها، تدهورت أحوال الناس، لأننا فى الحقيقة لم نكن نبنى للمستقبل، إنما لنسد احتياجات ملايين الأفواه التى تطلب طعاما وسكنا وعملا، دون أن نعرف على وجه الدقة، كيف يمكننا الاستفادة من هذه «الميزة» إن كنّا نعتبرها كذلك، أو نوقف دورانها اللاهث، إن كنّا نعتبرها عبئا على مواردنا المحدودة.
أعرف طبعا ما يمكن أن يقال فى الرد على ذلك، وبعضه يستند إلى تخريجات دينية أو موروثات شعبية، وبعضه يحيل الأمر إلى مؤامرة كبرى تستهدف تقليل أعداد المسلمين وزيادة عدد «أعداء الأمة»، المتأبطين بها شرا، وهى مقولات كان يمكن الاعتداد بها لو أننا أكثر تقدما وقوة ومنعة من أعداء الأمة، أوأننا قادرون على الاستغناء عنهم فى كل أوجه حياتنا، فضلا عن أن معدلات الزيادة السكانية لديهم هى فى أغلبها بالسالب، كما أنك تعلم وأنا أيضا أن «العدد فى اللمون».
أرجو أن تلقى نظرة على النتائج قبل أى حديث عن المؤامرة، وأن تلاحظ أن الزيادة السكانية الرهيبة لم تقابلها زيادة فى الأرض الزراعية، العكس هو ما جرى، هجم السكان على الزراعات فجرفوها، وتحولت مساحات شاسعة من الخضرة إلى بنايات شائهة، وتقلصت مساحات الخصوصية الممنوحة لكل فرد حتى ضاقت بنا بلادنا، وزادت الكثافة فى المدارس والجامعات والمستشفيات ووسائل النقل، وزاد عدد العاطلين والمتسولين وساكنى القبور والعشوائيات.
أعرف طبعا أن الفساد والاستبداد هما أس كل بلاء، لكننى أتحدث عن لحظة راهنة سيكون علينا فيها أن نواجه إرثا ثقيلا، وأن نعترف أن الزيادة السكانية التى لا يقابلها نمو فى الناتج القومى وتنوع فى الموارد وتحسن فى نوعية الشغيلة واتساع فى سوق العمل، تصبح «جرّافة» تأكل فى طريقها الأخضر واليابس.
أزعم أن هذه واحدة من أهم القضايا التى ينبغى أن نواجهها ــ الآن وهنا ــ بأعلى درجات الشفافية، ولا يجوز أن تصير مادة انتخابية يدغدغ بها المرشح الرئاسى مشاعر الجماهير، خصوصا ونحن نتطلع إلى إنجازات تعيدنا للحضارة وتعيد الحضارة إلينا، لا سياسات تسد جوعنا يوما بيوم.
سيكون على الرئيس الجديد وحكومته وبرلمانه، أن يفكروا فى المستقبل فى نفس الوقت الذى يكافحون فيه إرث الماضى، وهذا هو التحدى الأكبر.