لم أنتظر أن تخرج عن مؤتمر القمة السادس للدول الأمريكية قرارات تستحق الجهود التى بذلتها دولة كولومبيا فى التحضير للمؤتمر. لم أنتظر قرارا يدعو المسئولين فى كوبا إلى السفر فورا إلى مدينة قرطاجنة والمشاركة فى بعض أعماله. كذلك لم أنتظر قرارا تعلن فيه دول الأمريكتين إباحة استهلاك المخدرات وتقنين سبل ومواقع إنتاجها وتسويقها. ولم أنتظر من حكومات القارة ــ وبعضها ما زال يعتبر نفسه ممثلا للثورية الجديدة ــ قرارا يدعم الاحتجاجات الشبابية التى تنتقل الآن من شيلى إلى دول أخرى فى القارة الجنوبية.
نوقشت قضايا عديدة داخل قاعة المؤتمر. من بينها القضايا المتعلقة بالتجارة وحاجة دول أمريكا الجنوبية إلى أن ترفع الولايات المتحدة بعض القيود المفروضة على صادراتها وتسهيل سفر رجال الأعمال والطلبة وطلب الأرجنتين دعم القمة لحقوقها في جزر المالفيناس. ومع ذلك كانت القضايا الأهم هى تلك التى جرت مناقشتها والتداول فى شأنها خارج القاعات وقبل انعقاد المؤتمر، وسيستمر بعضها إلى ما بعد عودة الوفود إلى بلادها. أقول هذا وأنا واثق تماما بأن هذا المؤتمر مثل معظم مؤتمرات القمة فى كل مكان، إذا لم تكن قد وقعت قبل انعقاده بساعات الفرقعة الإعلامية التى أحدثتها قضية الحرس الخاص للرئيس أوباما. لربما انخفض محتوى الرسائل الإعلامية المتعلقة بالمؤتمر إلى النصف.
لم يكن متصورا أن حرس الرئيس الأمريكى، صاحب سمعة الانضباط والقوة العضلية والأخلاق الرفيعة والبذلات ونظارات الشمس السوداء وسماعات الأذن المتدلية على الصدور، يقوم عدد منهم بإثارة الشغب والفوضى فى الفندق الذى نزلوا فيه بسبب خلافات على أو مع بائعات هوى كولومبيات. لم يكن الرئيس أوباما قد وصل بعد، ولكن الفضيحة غطت على أخبار سفره ووصوله وبعض لقاءاته الأولى، ولعل الخبر الذى ربما بدا كافيا لإشباع نهم الإعلام الأمريكى إلى مادة جديدة تزيد حرارة الانتخابات الرئاسية الأمريكية اشتعالا، كان أيضا كافيا ليغطى على الاستعدادات الجارية لانعقاد القمة وموضوعاتها. أصلا، لا تحظى أمريكا الجنوبية بالحيز المناسب فى أجهزة الإعلام ولدى الرأى العام فى الولايات المتحدة. وبالفعل كان يمكن أن تمر القمة دون أن يلاحظها أو يهتم بها الرأى العام لولا حادث الحرس الخاص، الذى نجح فى لفت الأنظار إلى كولومبيا وانعقاد القمة قبل أن يعود إلى تجاهله لها.
●●●
كانت هناك فى واشنطن الأسبوع الماضى روسيف رئيسة جمهورية البرازيل فى زيارة هى الأولى منذ تولت الحكم، ترد بها زيارة أوباما للبرازيل فى العام الماضى. قرأت فى بعض المواقع الإعلامية انتقادا لبرودة الاستقبال الرسمى للرئيسة البرازيلية فى الولايات المتحدة، وسمعت وصفا دقيقا للقاء الرئيسين جاء فيه أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر.
قيل الكثير فى تفسير هذا الإهمال المتعمد من جانب الولايات المتحدة للبرازيل، منها ما يستحق التوقف عنده، وكثير منه لا يدعو للاهتمام. أهم ما تردد فى تفسير العلاقة بين البلدين هو ما جاء على لسان صديق أمريكى متخصص فى السياسة الخارجية الأمريكية، وبخاصة قوله إننا كمحللين أو متابعين للسياسة الخارجية الأمريكية ننسى أحيانا أن الدولة الكبرى التى تعودت لمدة طويلة على أسلوب معين فى التعامل مع دولة صغيرة أو تابعة تجد صعوبة شديدة فى التعامل بأساليب مختلفة مع هذه الدولة إذا صارت الدولة الصغيرة دولة كبرى، أو إذا طالبت بمعاملة مختلفة واعتراف بما حققت من قوة وتقدم ومواقع قيادية دولية وإقليمية تتناسب والقوة المادية والسياسية التى حصلت عليها ، مثل المطالبة بمقعد دائم فى مجلس الأمن.
نفهم هذا الأمر من واقع تجاربنا فى الحياة العادية. نرى مثلا الصعوبة التى يلقاها رئيس فى العمل يتعين عليه التعامل مع مرءوس صار مثله رئيسا أو على وشك أن يصير، المؤكد أن الرئيس الأقدم سيقاوم، وأحيانا بشراسة، الواقع الجديد وسيحاول الإبقاء على ميزة نسبية تجعله يحتفظ بأقدميته وحقه فى أن يواصل ممارسة دور القيادة. لا شك أن شيئا مماثلا يحدث على مستوى الدول، فالولايات المتحدة التى تعودت أن تتعامل مع البرازيل كدولة صغيرة وفقيرة ومثيرة أحيانا للشغب وتتعمد أن تزهو باختلافها عن شعوب القارتين في كل شىء تقريبا حتى اللغة، هذه الدولة تراها أمريكا وقد صارت الدولة السادسة فى ترتيب أقوى اقتصاديات العالم، وهى أيضا الدولة التى أزاحت بريطانيا العظمى وحلت محلها فى القوة المادية، وهى الدولة التي قضت على فرص المكسيك فى قيادة القارة الجنوبية بعد أن كانت المرشح الأول قبل عشر سنوات فقط، وهى أيضا الدولة التى عاد شعبها ينشد فى كل مناسبة، وبكل الفخر والثقة بالنفس، أنشودة «نحن أحسن أمة فى العالم». مثل هذا التطور وإن بدا عاديا فى منظور الأمم الصاعدة لا يبدو هكذا من منظور الولايات المتحدة الدولة التى اعتقدت دائما أن أمريكا الجنوبية لا يمكن أن تفرز دولة عملاقة.
●●●
سُئل كارلوس سليم، الرجل المكسيكى الأعظم ثراء فى العالم، عن سر تفوق البرازيل وتراجع المكسيك، فقال، عندهم شعب متفائل وعندنا فى المكسيك شعب متشائم. أتصور أن كارلوس سليم أحسن التعبير، إذ إن الزائر الغريب إلى تلك المنطقة يلفت نظره للوهلة الأولى المزاج الكئيب الذى يغلب على أغلبية سكان المكسيك، على عكس المزاج المنشرح والمبتهج الذى يميز المواطن البرازيلى ويكاد لا يفارقه.
وأظن أننى سوف أتجاسر وأستعير هذا التعبير للمقارنة بين مؤتمرات قمة تكاد تعقد أسبوعيا فى شتى أنحاء العالم. هناك بالفعل قمم يسود فيها مزاج كئيب وقمم تبدو من بدايتها خفيفة الظل، وأكاد أؤكد أن معظم قمم العالم الصاعد وليس بينها قمم عربية باعتبار أن العرب أمة غير صاعدة فى الوقت الراهن، رغم كل المتاعب التى يواجهها حكام العالم الصاعد تتسم بالتفاؤل، على عكس قمم الدول الصناعية المتقدمة التى صارت تكتسى بمزاج التشاؤم. بمعنى آخر، الدول القديمة موقعا وقوة واقتصادا تعانى الكآبة، والدول الصاعدة ثقافة وحضارة وقوة واقتصادا تتصرف بتفاؤل.
●●●
كانت القمة الأمريكية السادسة فرصة ثمينة لمن يريد أن يعرف أكثر عن صعود الأمم، مشكلات هذا الصعود وأحلامه. رأينا فى هذه القمة، قمة كولومبيا، دولا صغيرة تضغط على دولة عظمى لتعترف بمسئوليتها عن الحرب ضد المخدرات. هذه الحرب التى كلفت المكسيك وحدها أكثر من خمسين ألف قتيل فى ست سنوات، وكلفت كولومبيا ثمنا غاليا وتكلف كل دول القارة، ودول خارج القارة، أعباء سياسية واجتماعية باهظة. المخدرات والحرب ضدها طاعون يهدد أمن وسلام شعوب أمريكا اللاتينية. ذنب هذه الشعوب أنها عاشت على مقربة من الولايات المتحدة، السوق الكبرى لهذه المخدرات. لم يخفِ رؤساء كثيرون فى أمريكا اللاتينية انتقاداتهم لسياسة الولايات المتحدة فى هذا الشأن، من هؤلاء فرناندو إنريكى كاردوزو الرئيس الأسبق للبرازيل، وفيليبى كالدرون رئيس المكسيك السابق وأوتو بيريز مولينا رئيس جواتيمالا الحالى الذى كتب مقالا نشرته الجارديان البريطانية يدعو فيه إلى تقنين المخدرات وإباحتها. ومع ذلك فقد تلقى حكام القارة الجنوبية المجتمعين فى المؤتمر التحذير المناسب قبل الانعقاد وهوأن أوباما ليس فى وضع يسمح له بمسايرتهم فى شأن طلب إباحة استهلاك المخدرات فى أمريكا فالسنة الحالية سنة انتخابية، والمحافظون فى الحزب الجمهوى سيعلنونها حربا ضده لو تجاسر وفعل هذا.
لم تطرح العلاقات مع الصين للنقاش المفتوح، ولكنها خيمت على أجواء المؤتمر، بل هى تخيم بالفعل على أجواء الأمريكيتين منذ سنوات. الجديد فى هذا الشأن هو التعبير الذى تردد فى كل كواليس المؤتمر ويقول إن أعلام الصين صارت ترفرف على جميع جزر البحر الكاريبى، أى على أراضٍ تقع على مسافة أقصاها ربما مائتى ميل من سواحل فلوريدا. الصين تبنى حاليا مشروعات سياحية ومدارس ومطاعم وفنادق ومنتجعات وملاعب رياضية فى كل دولة من دول الكاريبى، فى الدومينيكان وانتيجوا وجامايكا والبهاما وترينيداد ــ توباجو وباربودا. لا تقيم قواعد ولا تبيع سلاحا. ولم تطلب من حكام هذه الدويلات مقابلا، تأمل فقط أنه فى يوم قريب ستحتاج إلى أصواتها ضد تايوان.
●●●
لم تحضر كوبا لأن أمريكا أنذرت أنها لن تحضر لو دعيت كوبا. لذلك ذهب رئيس كولومبيا إلى كوبا يطلب من رئيسها راؤول كاسترو عدم الإصرار على طلب المشاركة، وهو يعلم أن ائتلافا من دول ثورية ودول معتدلة فى القارة مستعد للدخول فى مواجهة مع الولايات المتحدة إذا أصرت كوبا على الحضور. بمعنى آخر لم يتغير شىء على هذا الصعيد منذ عام 2002 عندما اتصل رئيس المكسيك السنيور فوكس بالرئيس فيديل كاسترو يرجوه الحضور وتناول الغداء ومغادرة مقر مؤتمر القمة قبل افتتاح الجلسات. كانت حجة أمريكا هذه المرة، انتخابات الرئاسة والخوف على فقدان أصوات المغتربين الكوبيين وبخاصة المقيمين فى فلوريدا!!
●●●
انتهى المؤتمر بعد أن أثبتت كولومبيا أنها حققت استقرارا سياسيا سمح لها باستضافة أربعة وثلاثين رئيس دولة تخلف واحد منهم، وأنها قادرة على توفير الحماية لهم، بعد أن لجأت إلى أخذ مشورة أجهزة الأمن فى سبع وعشرين دولة، وتكليف شركة كندية تصنيع أربعة روبوتات (إنسان آلى) لتأمين المنطقة من مدينة قرطاجنة التى استضافت القمة. أما الرئيس أوباما فقد عاد إلى بلاده دون أن يجدد أمل أهل أمريكا الجنوبية فى أن الجار الأعظم سوف ينتبه لمشاكلهم ومستقبلهم ويمنحهم أسبقية على شعوب أخرى فى الشرق الأوسط وآسيا.