أظن أن عادل إمام لم يبتعد كثيرا عن الواقع فى أدائه لدور الزعيم فى المسرحية التى تحمل هذا العنوان. هناك مبالغات لا شك فيها، ولكن كثيرا مما ورد على لسانه وفى تمثيله وأدائه كان قريبا جدا من نمط سلوكيات بعض حكام أمريكا اللاتينية فى مراحل معينة. هؤلاء لم يأتوا من فراغ. بل جاءوا من ثقافة «سلطوية» أصيلة وكان نموذجها العصرى الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو الذى حكم إسبانيا خلال عهود التيار الفاشى فى القارة الأوروبية، واستمر فى الحكم حتى بعد انهيار النازية والفاشية فى ألمانيا وإيطاليا. استمر حتى عام ١٩٧٥.
تراث أمريكا الجنوبية فى السلطوية وحكم الفرد أقوى وأشد عودا من القرين الأوروبى الحديث. كان الحاكم الإسبانى نموذجا حاكاه الزعماء فى دول أمريكا اللاتينية الذين قادوا الحركات القومية والتحررية لطرد الاستعمار الايبيرى. تصادف صعود هؤلاء القادة مع انتشار السمعة الإصلاحية والسلطوية التى عرف بها نظام محمد على باشا، وخلفوا رصيدا من خبرات الحكم والسلطة الفردية لجيل جاء بعدهم. يمثلهم أحسن تمثيل «الزعيم» الأرجنتينى خوان مانويل دى روساس، وإليه يعود الفضل فى «إبادة» الملونين من العبيد السود والهنود الحمر على حد سواء، و«تطهير» الأرجنتين منهم والاحتفاء بها «دولة أوروبية بيضاء»، ولعلها مع الأوروجواى الدولتان الوحيدتان فى القارة الخاليتين تقريبا من ألوان بشرة أخرى غير البشرة البيضاء، باستثناء بعض الجيوب فى أقصى شمال غرب الأرجنتين وأقصى الجنوب. كان هدف «الزعيم» دى روساس نقل الأرجنتين إلى مكانة الدولة العصرية تماما مثلما كان يحلم باشا مصر وطبقة المحاربين المصلحين الجدد فى اليابان.
***
منذ ذلك الحين، وبخاصة منذ مطلع القرن العشرين، تعدد ظهور «الزعماء» فى القارة اللاتينية. كان أشهرهم على الإطلاق، كدكتاتور وشخصية هزلية، «رافائيل ليونايداس تروخيو» Trujillo الذى حكم جمهورية الدومينيكان ثلاثين عاما من عام ١٩٣٠ حتى عام ١٩٦١، وكان يطلق على نفسه، بل كان عنوان سيرته الذاتية، «قيصر الكاريبى الصغير». درسنا مفهوم الزعيم «El Caudillo» ومواصفاته فى كليات العلوم السياسية. رجل ذو قامة طويلة ومنكبان عريضان وشارب أسود ضخم. يأتى ومعه أسطورته الجاهزة. «يدخل إلى القرية الوديعة، ولكن الفاسدة، ممتطيا الحصان الأبيض الشهير، ليعلن على الناس أنه رسول العناية الإلهية، وأن لا أحد فى هذه القرية سوف يأمن من شره إذا عارضه أو تدخل فيما لا يعنيه». إلى هنا وتنتهى الأسطورة وتبدأ السيرة الحقيقية والمتكررة فى معظم أنحاء القارة.
تقول السيرة إن الناس ائتمنوه على بيوتهم وممتلكاتهم قبل أن يكتشفوا أنه جبار عليهم ولكن لينا وضعيفا أمام ممثلى شركات الفواكه الأمريكية الذين استخدموه سوطا يلهبون به ظهور الفلاحين والمثقفين المناهضين للهيمنة الأمريكية.
مع بدايات الحرب العالمية الثانية ورواج مفاهيم الاستقلال والحرية والقومية ظهر جيل جديد من «الزعماء» فى أمريكا اللاتينية، كان أبرزهم على الإطلاق وأشهرهم عالميا الكولونيل «خوان بيرون» الذى جاء إلى الحكم ضمن فريق من الضباط «القوميين» لمحاربة الفساد وإصلاح أمور البلاد فى ظل وضع اقتصادى لم تشهد الأرجنتين سابقة له، ووضع اجتماعى يهدد بالانفجار بسبب اتساع فجوة اللامساواة.
انفصل «بيرون» عن الفريق وأقام مع محبوبته الممثلة الإذاعية «إيفا» نظاما اختاراه معا، نظام ينحاز إلى الفقراء. هكذا يكونان قد «طلقا معا ظاهرة الحكم العسكرى المدعوم «شعبيا»، على عكس الوضع السائد والتاريخى، حين كان الحكم العسكرى مدعوما بقوى الأعمال والمال وملاك الأراضى. استخدم النظام البيرونى خلطة من اليسارية والقومية، رافعا شعارات ضد الهيمنة الأمريكية ومستعينا بحديث المؤامرة الدولية الذى يروج لفكرة أن الأرجنتين تخلفت بسبب مؤامرة دولية، بعد أن كانت فى أوائل القرن بين الدول المتقدمة اقتصاديا. فكرة أن يخرج الزعيم من رحم الجيش رافعا شارات قومية أو يسارية ومستندا إلى زخم شعبى ترددت أصداؤها فى العالم العربى فى أعقاب هزيمة الحكومات العربية فى فلسطين.
بعض شعارات بيرون والحركة البيرونية من بعده تبناها ومازال يتبناها زعماء من أصول غير عسكرية فى أمريكا اللاتينية. ترددت أصداؤها فى بيرو على يد الرئيس «فوجيمورى» الذى وصل إلى الحكم ديمقراطيا، وخرج منه بتهمة الضلوع فى عمليات فساد هائلة. وفى فنزويلا خرج من صفوف الجيش الضابط المتمرد دائما «هوجو شافيز» ليستولى على الحكم بشعارات قومية ويسارية وأقام نظاما شعبويا، وانتهى به الأمر زعيما إقليميا لتحالف يسارى ضم «إيفو موراليس» زعيم بوليفيا وكوريا ورئيس اكوادور، ومدافعا عن عقيدة سياسية جمعت بين تراث «سيمون دى بوليفار» محرر القارة وأفكار «فيدل كاسترو» محرر كوبا و «شى جيفارا» أيقونة الثورة العالمية ضد الهيمنة والنيوليبرالية الأمريكية. غير خاف على أحد، وبخاصة على المتخصص فى شئون أمريكا اللاتينية، أن نظامى «هوجو شافيز» فى فنزويلا ممثلا فى خليفته «مادورو«و «إيفو موراليس» فى بوليفيا مهددان الآن باحتمال سقوطهما على أيدى العسكريين، هذا إذا لم يسرعا بالتنازل عن الحكم لمعارضيهما المدنيين النيوليبراليين من الذين تدعمهم الولايات المتحدة، بمعنى آخر المطلوب الآن أن يحدث انتقال سلمى للسلطة لتصبح فى أيدى خصوم العدالة الاجتماعية والتخطيط الاقتصادى كما حدث فى المكسيك وفى الأرجنتين وكما يحدث الآن فى البرازيل وإلا فالجيش على أبواب السلطة مستعد لاقتحامها فى الوقت المناسب.
***
كتبت هذه المقدمة الطويلة جدا لأصل إلى النهاية التى تنتظر الآن الرجل الذى تولى السلطة فى البرازيل عقب توقيف السيدة «ديلما روسيف» عن ممارسة مهام رئاسة الدولة إلى حين انتهاء التحقيق معها حول سكوتها عن تحويلات مالية غير قانونية بين مؤسسات فى الدولة وشركات تابعة لها. هى تقريبا نفس التهمة التى تحاكم بسببها الآن رئيسة يسارية أخرى (بيرونية) فى الأرجنتين، كريستينا كيرشنر، بعد أن انهزمت ديموقراطيا لصالح زعيم نيوليبرالى مدعوم أمريكيا. (انظر مقالى حول هذا الموضوع فى صحيفة الحياة بعنوان الحرب العالمية ضد الليبرالية يوم 9مايو، ومقالى المنشور فى نفس مكان مقال اليوم يوم 12 مايو). بدا لى تطورا منطقيا أن تسرع القوى المعادية للديمقرطية بتعيين «ميشيل تامر»، نائب الرئيسة ديلما، رئيسا للجمهورية بالوكالة لمدة تسعين يوما تجرى بعدها انتخابات رئاسية جديدة. وكان أمرا متوقعا أن لا يتأخر الرئيس المؤقت الجديد فى الإعلان عن نيته وقف العمل فى بعض المشروعات التى أقرتها الحكومة فى عهد ديلما، وأغلبها لصالح العمال والفلاحين وتضييق فجوة اللامساواة وتعديل النظام الاقتصادى ليتحول من اقتصاد تتدخل فيه الدولة إلى نظام متحرر نسبيا من سلطة الدولة. بمعنى آخر ينوى الانضمام إلى التيار الصاعد فى القارة اللاتينية والساعى لفرض «الليبرالية الجديدة» عقيدة للدولة، بمعنى فتح أبواب البلاد بدون شروط للاستثمار الأجنبى والاندماج فى السوق العالمية والتخلى عن العلاقات التفضيلية مع دول مجموعة البريكس و«تحرير» نظم الصرف والتجارة وخفض الضرائب على الأغنياء.
***
لاحظنا بقليل من الدهشة الظهور الفورى، ربما بعد دقائق من إعلان تامر رئيسا مؤقتا، لزعيم فى المعارضة ومؤيدون عديدون يدعون إلى العمل على إسقاط النظام الحاكم فى الانتخابات القادمة، وقولهم إن اليسار فشل فى عام ١٩٦٤، وكانت نتيجة فشله تولى العسكريين الحكم، وها هو يفشل الآن فى ٢٠١٦. هؤلاء وكثيرون غيرهم فى الطبقة الوسطى المتضررة من الأوضاع الاقتصادية يتملكهم حنين شديد إلى سنوات الحكم العسكرية. هؤلاء حتى الآن على الأقل معتزمون العودة إلى الحكم بأساليب ديمقراطية، ولكنهم قد يملون الانتظار حتى إجراء الانتخابات بعد عامين، وبخاصة إذا خرجت إلى الشارع مظاهرات شعبية تطالب ببراءة السيدة ديلما أو عدم إصدار تشريعات تضر بمكتسبات الطبقات الفقيرة.
***
ليس غريبا أو جديدا أن نقرأ فى التعليقات الصحفية من يذكرنا بحقيقة أنه فى معظم حالات الانتقال من حكم العسكريين والتشدد اليمينى إلى حكم الليبراليين والديمقراطيين أن تولى الحكم شخصيات تعرضت للتعذيب فى سجون الحكومات الدكتاتورية. السنيورة «باتشيليت» مثلا رئيسة تشيلى جرى تعذيب أهلها ومطاردتها، «ديلما روسيف» تعرضت للتعذيب، وكذلك «خوسيه موخيكا» آخر حكام الأوروجواى.
***
يروى السينور «بولرارو» الزعيم تحت التدريب فى مجلس النواب والمرشح للتقدم لانتخابات الرئاسة فى ٢٠١٨، نظرية أن الشعب يريد العودة إلى أيام حقق فيها العسكريون الاستقرار والسلم الاجتماعى، ويفخر بأنه منهم إذ عمل طيارا وضابطا للمظلات. يقول إن الحكومة العسكرية التى تولت السلطة لأكثر من عشرين عاما أعادت الأمن إلى الشوارع وأعادت إلى المدرسة احترام التلاميذ للمعلم. فى عهدهم لم يكن الفقراء يتوقعون حالا أحسن مما هم فيه، كانت توقعاتهم محدودة.
***
مهم جدا أن نعرف أن الجماعة التى تخطط لاستكمال تنفيذ مخطط الانقلاب الذى بدأ بتوقيف السيدة رئيس الدولة ترفع شعارا مكونا من الحروف الأولى لثلاث كلمات، الرصاصة والخبز والإنجيل، تعبيرا عن التحالف الذى يستعد الآن لحكم البرازيل، وهم الجيش وكبار التجار والكنيسة.
***
غير خاف أيضا الاهتمام فى أوساط المال فى أمريكا وأوربا بتطورات الوضع فى البرازيل. البرازيل ليست دولة صغيرة أو عادية، البرازيل دولة وضعت قدميها على سلم الصعود إلى مراتب القمة الدولية، ولن تهدأ القوى المناهضة لليبرالية والحرية فى جميع أنحاء العالم إلا إذا ضمنت سقوط الديمقراطية فى البرازيل، أو لجمها بإثارة العسكريين ورجال الدين.
لاحظ أيضا أن الدول الثلاث الكبار فى أمريكا اللاتينية المكسيك والأرجنتين والبرازيل تخضع الآن لحكم رجال ملتزمين أفكار اقتصاد السوق ومناهضين للتيارات اللبرالية والمجتمع المدنى ومتحالفة مع قوى المال والفساد، بمعنى آخر الدول الثلاث الكبار فى أمريكا اللاتينية معرضة لتصعيد شديد فى أنشطة ثورية واحتجاجات اجتماعية، وبالتالى مهددة بتدخل عسكرى لاستعادة الاستقرار وفرض النظام بالقوة وحماية الاستثمارات والقروض الأجنبية.