كان لى أن أمارس مهنة الطب على مر أيامى فى وطنى وغربتى التى بدأت بفرنسا ثم كندا وأمريكا إلى حين عودتى إلى أمانى ومستقرى، مصر. كانت الملاحظة الأولى والأهم التى استقرت فى وجدانى وتأصلت من خلال عملى فى مستشفى «نيكير» فى العاصمة الفرنسية باريس أن للمريض حقا وعليه واجب، رغم أنه كان أكبر مستشفى أطفال وبه أحد أشهر أقسام طب قلب الأطفال فى أوروبا إلا أنه أيضا كان مثلا رائدا لتحقيق هذا التوازن الفريد. كان الحق فيه كاملا للطفل فى تلقى أكمل العلاج مهما تعاظمت تكاليفه، أما الواجب فقد كان على عائلته على قدر ما يمكنها أن تقدم للمستشفى من مساهمة تعينه على أداء كامل خدماته رغم أن فرنسا تنتهج نظاما فريدا للتأمين الصحى، يعفى المواطن الفرنسى تماما من أعباء فواتير المرض مقابل مبالغ عادلة مقبولة من مرتبه طوال حياته.
كان من أكثر لحظاتى سعادة أن أتسلم من الأم أو الأب أو حتى من ينوب عنهما من عائلة الطفل المريض بعد شفائه ومغادرته المستشفى الاستمارة التى أعدها المستشفى لتتبين أى نوع من المساهمة يمكن أن يقدمها المواطن الفرنسى للمستشفى.
فى مستشفى «رويال فيكتوريا» الكندية بمونتريال كان يمكننى أن أرى رئيس وزراء كيبيك وزعيم الحزب الليبرالى وهو يدفع مقعدا متحركا لمريض فى طريقه لإجراء فحص ما فى أحد أقسام المستشفى كأحد مقدمى الخدمة الطبية المجتهدين، فقد كان عضوا فى رابطة المتطوعين لخدمة المرضى يؤدى عمله بانتظام لمدة ٤ ساعات مرتين فى الشهر.
ارتبط العمل الخيرى التطوعى فى المستشفيات دائما فى ذهنى بالعمل العلمى والمهنى الذى أؤديه. لم لا وأنا أنتمى لحضارة كانت ترصد الأوقاف الضخمة على من يعمل مؤنسا للمرضى؟ نعم عرفت مصر هذا النوع من الأوقاف الذى فيه يعتمد مرتب مجز جارٍ بلا توقف على من يتطوع بزيارة المرضى ومجالستهم ومحاولة رفع روحهم المعنوية وأملهم فى الشفاء والعودة إلى مباهج الحياة واستعادة الصحة.
الحديث عن دور فعال للمجتمع المدنى فى مجال الصحة أصبحت أتمنى ألا أكف أبدا عنه، فالواقع أنه يمثل الأمل الباقى الذى يضمن للإنسان المصرى حقا أصيلا فى الصحة والشفاء من المرض إذا ما داهمه من دون مقدمات وهو أعزل بلا رصيد يحميه أو يملك الدفاع عنه.
أؤمن بلا حدود بدور المجتمع المدنى فى دعم صحة الإنسان، لكننى أكره أيضا بلا حدود تلك الوسائل التى اجتمعت لنوع جديد من ثقافة الإعلانات التى لا تخرج عن كونها وسيلة للتسول يختلط فيها الترغيب بالترهيب ويحاصر الإلحاح فيها الإنسان بلا هوادة بصورة لا تضمن للإنسان أو من يتبرع مختارا أو راضيا أو متأكدا من أن تبرعه سيصل بالفعل إلى هدفه الذى يتمناه. يبدو الأمر واضحا ومحددا خلال شهر رمضان من كل عام. كل المبانى للمؤسسات الطبية على حالها من عام لآخر بينما مصر تشهد أكبر حركة بناء منذ أنهى خوفو بناء هرمه فى انتظار تبرعات المصريين!
لماذا أعاود طرح تلك القضية المهمة اليوم؟
الواقع أننى لن أتوقف عن الحديث عن دور المجتمع المدنى فى دعم مشروعات صحة الإنسان المصرى فى بلدى لأن الدور الذى أمارسه عن قناعة وأملك فيه الكثير من الأفكار التى أسعى بكل جهدى لتحقيقها مع كل إنسان يرى بعينيه وقلبه أننا نعيش أعوام الريادة والتى تستوجب أن يلى الحق الواجب إذا كان لنا أن نعى بأى زمن نعيش وأى زمن ينتظرنا إذا ما تركنا الأمر على ما هو عليه.
زارتنى فى معهد القلب هذا الأسبوع سيدة تحسبها ملاكا أخفى أجنحته، لها من جمال الملامح والروح ما يجعلك تنصت لها طائعا. عرضت على فكرة أسمتها «إحياء نفس»، تعرض فيها أن تتبنى مريضا يحتاج عملية تعيد عليه حياته وتفضل أن يكون شابا حتى تنال جزاءها عند الله حينما تراه يتعافى ويعمل وينضم عضوا نافعا فى المجتمع.
الواقع أن هذه ليست المرة الأولى التى تدعم فيها ماهى طوسون ــ وقد يغضبها منى أن أذكر اسمها ــ مرضى معهد القلب، لكن الفكرة راقت لى كثيرا، الأمر الذى سمح لى بذكر اسمها دون إذن منها.
راقنى منطق الالتزام بالآخرين والرغبة فى متابعة حياة الإنسان الذى اختارت أن تساعده فى مسئولية والتزام.
أصدقائى الأعزاء قراء الصفحة.. ادعموا فكرة العمل الخدمى المجتمعى فى مجال الصحة.. اكتبوا لنا عن أفكاركم وآرائكم بعيدا عن الإعلانات والمزايدات والأوهام.. اكتبوا لنا عن ما يمكن أن يقدمه الإنسان راضيا مختارا لأخيه الإنسان فى مرضه، فهذا بلا شك رصيد له يسانده إذا ما هو يوما احتاجه.