هل يصلح لبنان لأن يكون مركزا عالميا للحوار بين الحضارات والأديان والثقافات؟.
هناك حاجة عالمية لتكوين مثل هذا المركز. يعكس هذه الحاجة تطلع العالم إلى نموذج صالح يقتدى به بعد التداعيات التى شهدها إثر انتهاء الحرب الباردة ونتيجة لها.
والشرق الأوسط مهبط وحى السماء، من اليهودية إلى المسيحية فالإسلام، ومنبع الحضارات الإنسانية من الفينيقية إلى الفرعونية والآشورية يشكل بتعدد الإثنيات فيه مساحة نموذجية للتنوع وللتعدد فى العالم؛ ويشكل لبنان بمكوناته الإنسانية والثقافية شرق أوسط مصغر.
وتشكل تجربته بكل ما واجهتها من صعوبات وتحديات، وبكل ما حققته، وما لم تحققه من إنجازات، نموذجا يؤهله لأن يكون حاضن المركز العالمى للحوار ورافع رايته. ذلك أن الحوار فى لبنان وبين اللبنانيين ليس مجرد تعبير عن ثقافة احترام الاختلاف والتعايش بين المختلفين فقط، ولكنه فى أساسه وفى جوهره صيغة حياة ومبرر وجود وبقاء واستمرار.
فى الأساس يقوم لبنان، الدولة والكيان، على صيغة حياة مشتركة توافق عليها اللبنانيون بعائلاتهم الروحية المختلفة، وهى صيغة تعاقدية إنسانية تفسح فى المجال أمام كل المواطنين لتحقيق ذاتهم، فى تنوع أصيل وتكامل متجانس بين بعضهم، فى إطار دولة واحدة.
ولكن الصيغة اللبنانية لم تنج من خطرين أساسيين؛ الخطر الأول هو عدم التزام اللبنانيين بما تدعو اليه الصيغة اللبنانية من قيم وبما تقوم عليه من أسس. أما الخطر الثانى فإنه يتمثل فى ردود فعل المناوئين لهذه الصيغة والمتضررين منها.
بتاريخ 18 ديسمبر 1981 نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية نص محاضرة ألقاها الجنرال إرييل شارون، وكان يومها وزيرا للدفاع فى إسرائيل، قال فيها ما ترجمته حرفيا:
«إن إسرائيل تصل بمجالها الحيوى إلى أطراف الاتحاد السوفيتى شمالا، والصين شرقا، وافريقيا الوسطى جنوبا، والمغرب العربى غربا.. فهذا المجال عبارة عن مجموعات قومية وإثنية ومذهبية متناحرة. ففى الباكستان شعب «البلوش»، وفى إيران يتنازع على السلطة كل من الشيعة والأكراد، وفى تركيا الأكراد والمسألة الأرمنية، أما فى العراق فمشكلاته تندرج فى الصراع بين السنة والشيعة والأكراد، فى حين أن سوريا تواجه مشكلة الصراع السنى ــ العلوى، ولبنان مقسوم على عدد من الطوائف المتناحرة، والأردن مجال خصب لصراع من نوع فلسطينى ــ بدوى، كذلك فى الإمارات العربية وسواحل المملكة العربية السعودية الشرقية حيث يكثر الشيعة من ذوى الاصول الإيرانية، وفى مصر جو من العداء بين المسلمين والأقباط، وفى السودان حالة مستمرة من الصراع بين الشمال المسلم والجنوب المسيحى ــ الوثنى، أما فى المغرب فالهوّة ما بين العرب والبربر قابلة للاتساع».
هذا التصوير للعالم العربى لم يقتصر على الجنرال شارون وحده. ففى دراسة حول «استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات» نشرتها مجلة «ايغونيم» (الحقيقة) الفصلية فى عددها الصادر صيف 1981، تفاصيل محددة حول البرنامج التفتيتى الذى تعمل إسرائيل على تنفيذه فى العالم العربى.
تقول الدراسة:
«فى المدى البعيد لا يستطيع العالم العربى البقاء ببنيته الحالية فى المناطق المحيطة بنا، من دون تقلبات فعلية. إن العالم العربى ــ الإسلامى مبنى مثل برج ورقى مؤقت، شيّده أجانب (فرنسا وبريطانيا فى العشرينيات)، من دون اعتبار لإرادة السكان وتطلعاتهم. فقد قسم إلى 19 دولة، كلها مكونات من تجمعات من الأقليات والطوائف المختلفة التى يناصب بعضها البعض العداء. وهكذا، فان كل دولة عربية ــ إسلامية تتعرض اليوم لخطر التفتت الإثنى ــ الاجتماعى فى الداخل، لدرجة أن بعضها يدور فيه الآن حروب أهلية».
وتقدم الدراسة عرضًا للانقسامات داخل كل دولة عربية فتقول:
«إن مصر مفككة ومنقسمة إلى عناصر سلطوية كثيرة، وليس على غرار ما هى الحال اليوم، لا تشكل أى تهديد لإسرائيل وإنما ضمانة للأمن والسلام لوقت طويل. وهذا اليوم فى متناول يدنا، أن دولا مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منهما، لن تبقى على صورتها الحالية بل ستقتفى أثر مصر فى انهيارها وتفتتها، فمتى تفتتت مصر تفتت الباقون. إن رؤية دولة قبطية ــ مسيحية فى صعيد مصر، إلى جانب عدد من الدول ذات سلطة أقلية ــ مصرية لا سلطة مركزية كما هو الوضع حتى الآن، هى مفتاح هذا التطور التاريخى الذى أخرته معاهدة السلام، لكنه يبدو مستبعدا فى المدى الطويل.
إن الجهة الغربية التى تبدو للوهلة الأولى معضلة هى أقل تعقيدا من الجبهة الشرقية حيث أصبحت ماثلة أمامنا اليوم جميع الأحداث التى كانت بمثابة أمنية فى الغرب. ذلك أن تفتّت لبنان بصورة مطلقة إلى خمس مقاطعات إقليمية هو سابقة للعالم العربى بأسره، بما فى ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية؛ إذ أخذ ينحو منحى مشابها منذ اليوم. إن تفتت سوريا والعراق لاحقا إلى مناطق ذات خصوصية إثنية ودينية واحدة على غرار لبنان، هو هدف من الدرجة الأولى بالنسبة إلى إسرائيل فى الجبهة الشرقية فى المدى البعيد.
إذ إن تشتيت القوة العسكرية لهذه الدول هو اليوم الهدف المرسوم فى المدى القصير، وسوف تتفتت سوريا وفق التركيب الإثنى والطائفى إلى عدة دول مثل لبنان حاليا، بحيث تقوم على ساحلها دولة علوية ــ شيعية، وفى منطقة حلب دولة سنية، وفى منطقة دمشق دولة سنية أخرى معادية للدولة الشمالية، والدروز سيشكلون دولة، ربما أيضا فى الجولان عندنا، وطبعا فى حوران وشمال الأردن، وستكون هذه ضمانة الأمن والسلام فى المنطقة بأسرها فى المدى الطويل، وهذا الأمر فى متناول يدنا منذ اليوم».
يلقى هذا الموقف الإسرائيلى الضوء على الدور الإسرائيلى فى محاولة ضرب الوحدة الوطنية فى لبنان وإثارة الخلافات الطائفية والمذهبية ومحاولة تقسيمه وتفتيتته!!. وقد لعب الجنرال شارون نفسه عندما قاد عملية غزو لبنان فى صيف 1982 على رأس الجيش الإسرائيلى، دورا أساسيا فى محاولة تحقيق هذا المشروع. إلا أنه باء بالفشل.
وعملت إسرائيل طوال أكثر من عقدين من احتلال الجنوب والبقاع الغربى على تحويل الاحتلال إلى رقبة جسر إلى المشروع ــ الهدف. ولكنها عندما يئست من ذلك اضطرت إلى الانسحاب دون قيد أو شرط فى مايو من عام 2000 تحت ضربات المقاومة المتسلحة بالوحدة الوطنية اللبنانية.
والآن توجه إسرائيل سكين التقسيم إلى العراق مستغلة حالة العداء القائمة بين العراق والولايات المتحدة منذ غزو العراق للكويت فى صيف 1991. وتعتبر إسرائيل أن ما فشلت فى تحقيقه فى لبنان يمكن أن تحققه فى العراق، ومن خلال العراق.
إن استعصاء لبنان على المشروع الإسرائيلى يؤهله لأن يكون النموذج للعيش الوطنى بين الجماعات المتعددة، ويؤهله تاليا لأن يكون مركزا عالميا للحوار بين الأديان والحضارات.
تعرف الأمم المتحدة، وتعرف دول حلف شمال الأطلسى، أن إنهاء عمل قوات الأمم المتحدة فى البلقان (البوسنة ــ الهرسك وكوسوفو والجبل الأسود ومكدونيا) يعنى احتمال استئناف الحرب أو الحروب الأهلية هناك. ولذلك فإن أحدا لا يجرؤ على سحب هذه القوات أو حتى على تخفيض عددها. مع ذلك فإن الاقتراح الوحيد لاحتواء حالة ما بعد القوات الدولية، يقول بـ«العزل العنصرى». أى بالفصل بين شعوب المنطقة على قاعدة الانتماء إلى العنصر أو إلى الدين. فكانت صربيا الأرثوذكسية وكرواتيا الكاثوليكية وكوسوفو الإسلامية الخ...
أما ما جرى فى لبنان فكان على العكس من ذلك. فعودة المهجرين حملت معانى العودة إلى الاختلاط التكاملى بين المسلمين والمسيحيين فى القرية الواحدة بل وفى الحى الواحد على النحو الذى يقوم الآن فى معظم المناطق اللبنانية التى كانت مسرحا للتقاتل خلال الحرب الداخلية.
واليوم إذا كانت القوات الأجنبية ضرورة لا غنى عنها لمنع سفك الدم من جديد فى البلقان، فإن اللبنانيين يلقون باللوم على التدخل الاجنبى وخصوصا التدخل الإسرائيلى لما حل بهم من مآس. وتجسد عبارة «حروب الآخرين» فى لبنان هذا الواقع، رغم أن الموضوعية تقتضى الاعتراف بأن الوضع الداخلى لم يكن يتمتع بالمناعة الوطنية الكافية لتعطيل حروب الآخرين التى عصفت به.
إن المسافة بين الخصوصيات الحميمة والجوامع المشتركة تجسّرها ثقافة التعدد. وهى ثقافة يشكل الاعتراف بالآخر واحترامه والانفتاح عليه والتكامل معه عمودها الفقرى. تقوم ثقافة التعدد على نظام معرفى وقيمى ومفاهيمى مشترك لا يتناقض فى أساسه وجوهره مع المبادئ والأسس التى تقوم عليها الخصوصيات الحميمة. فلابد من التعدد حتى تقوم فيه ثقافة التعدد، من حيث هى ثقافة احترام الاختلافات والتعايش مع المختلف معه بثقة ومساواة ومحبة.
فالتعدد الثقافى يكون مقبولا فى المجتمع الواحد اذا ظللته ثقافة التعدد. ولكن إذا تمرد التعدد الثقافى أو الدينى أو الإثنى على مبادئ وقيم ثقافة التعدد، وإذا عمل على خرقها انكارا أو تنكرا لها أو استعلاء عليها، عند ذلك تستقوى مكونات التعدد على مستلزمات الوحدة المجتمعية وتتحول إلى مشروع انسلاخى مع وقف النفيذ.
تقول وثيقة اليونسكو أن الحرب تبدأ فى العقول وفى العقول يصنع السلام. ولذلك تشجع المنظمة الدولية على أن الثقافة هى الوصفة الناجعة للسلام. يؤكد ذلك أن العديد من الحروب الداخلية والاقليمية التى تفجرت خلال القرن العشرين أشعلتها صراعات حول العقائد والأفكار والهويات.
بعد اندحار النازية والفاشية، ثم بعد سقوط الشيوعية اعتلت مسرح الصراعات الخصوصيات الإثنية، ومما زاد من القوة التفجيرية لهذه الخصوصيات ارتباطها بخلفية دينية على النحو الذى عرفه البلقان والقوقاز وشبه القارة الهندية وأيرلندا، أو بخلفية قبلية على النحو الذى عانت منه أفريقيا وأفغانستان، أو بخلفية لغوية على النحو الذى يقضّ مضاجع كندا وبلجيكا وإسبانيا وسواها.
فى الأساس تؤكد المواثيق الدولية وفى مقدمها ميثاق حقوق الانسان على الحق الثقافى بما فى ذلك حق التعليم، وحق المشاركة فى الحياة الثقافية إنتاجا واستهلاكا، وحق الهوية الثقافية. فالاستقلال السياسى يبقى هلاميا ما لم يكن مقرونا باستقلال ثقافى يؤكد شخصية الأمة ويحفظ لها تراثها وتاريخها وخصوصياتها.
صحيح أن فى لبنان تعددا دينيا ومذهبيا لا يمكن صيانته من دون احترام حق الاختلاف والتباين، وصحيح أن الإيمان الدينى والمذهبى ينمّى أعرافا وتقاليد ويكوّن ذوقا جماعيا خاصا بأهله، وصحيح أن هذه الأعراف والتقاليد والأذواق هى فى حد ذاتها جزء من البنية الثقافية، إلا أن الصحيح كذلك هو أن الهوية الثقافية هى العمود الفقرى لوحدة المجتمع، كل مجتمع. بها يكون واحدا وبها تكون وحدة الدولة والأمة.