فى أعناقنا ديون - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 5:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى أعناقنا ديون

نشر فى : الأربعاء 18 يوليه 2012 - 8:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 18 يوليه 2012 - 8:45 ص

رزقنا بقيادة سياسية جديدة. جاءت محمولة على طموحات كبيرة ولكن معبأة بهموم عظيمة. بدأت منذ يومها الأول، وربما قبله بأسابيع، تبحث عن مصادر وخبراء يؤمنون لها الشىء الذى لا يمكن أن تحيا وتستمر بدونه، الشىء الذى تسعى للحصول عليه كل حكومة فى العالم. هذا الشىء هو الدين بنوعيه الداخلى والخارجى.

 

●●●

 

لا أحب الديون، حرصت دوما على تفادى التعامل بها ومعها. نشأت على فكرة أن الديون يمكن أن تفسد علاقات صداقة وعلاقات عمل. لا أقصد حصرا الديون بين أشخاص ولكن أيضا الديون بين الدول. أول تجربة دين ساهمت فى تكوين موقفى من الديون الخارجية عموما، كانت القرض الذى طلبته حكومة جمال عبدالناصر من البنك الدولى للبدء فى تنفيذ مشروع السد العالى. لا أنسى كيف أن طلبا روتينيا متعارفا عليه، أصبح سببا فى انطلاق سلسلة من الأفعال وردود الفعل انتهت باحتلال سيناء وإغلاق قناة السويس وتدمير بورسعيد وإعلان نهاية عصر الاستعمار البريطانى والفرنسى لصالح عصر الهيمنة الأمريكية. التفاصيل لا شك كثيرة. وبعض التصرفات والهزات والأفعال وجدت تبريرا لدى المؤرخين، ولكن المؤكد بالنسبة لشخصى هو أنه لو لم تطلب مصر قرضا من البنك لما رد البنك بشروط مهينة ولما كان رد فعل مصر عنيفا بمنطق الكرامة والاستقلال الوطنى وكلاهما يحن إليه وما زال يذكره كثير من المصريين المخضرمين. ردت مصر بأن راحت تعرض على الكتلة الشيوعية شرف تقديم قرض إلى دولة تسعى لتخليص إرادتها من قيود الاستعمار التقليدى، مقابل أن تتيح لهذه الكتلة المناهضة للغرب فرصة الولوج فى الشرق الأوسط.

 

●●●

 

ما لم أكن أعرفه فى تلك الأيام، أيام البراءة، أن الديون ليست كلها ضارة أو معيبة، بل لعلها حسب رأى باحث وفيلسوف أمريكى يدعى David Graeber، ضرورية لقيام واستمرار أى مجتمع انسانى. يقول إن الديون تشكل أساس نشأة المجتمع، ولا يجوز إلغاءها أو استبعادها. علاقة الإنسان بالديون تبدأ بحكاية الدين الذى نحمله فى أعناقنا لآبائنا وأمهاتنا، كيف يمكن أن نتجاهل هذا الدين أو ننساه؟. من منا، غير عديم الأصل والأخلاق، أنكر هذا الدين أو فكر فى إلغائه أو جاهر بنيته عدم تسديده؟.

 

●●●

 

نشأنا على عادة تبادل الهدايا وهى العادة التى لم تخضع بعد للتحليل الوافى والتفسير العلمى. أليست الهدية فى تقدير المتلقى دين سيقوم برضه ذات يوم؟. أليست فكرة رد الهدية فى مناسبة قادمة أول ما يخطر على بال المتلقى بعد فرحة التلقى وحميمية أو دفء اللحظة. المفهوم فى المجتمعات كافة، بدائية كانت أم عصرية، بدوية كانت أم حضرية، أن الهدية ترد بأحسن منها. بمعنى آخر يصبح انتظار رد الهدية عامل توثيق للروابط الاجتماعية وبشرى متوقعة ومتجددة بخير سيأتى. بل دعونا نذهب إلى أبعد فنعترف مع بعض المتخصصين بأن التأخير فى رد الهدية قد يخدم هذه العلاقة المجتمعية لأنه يضمن استمرار علاقة الدائن والمدين، وهى واحدة من العلاقات الضرورية لتماسك المجتمعات. المهم، فى رأى هذا الفريق من الاجتماعيين أن يشعر المواطن أنه دائما مدين لمواطن آخر، مدين برد الهدية، ومدين بالفارق بين قيمة الهدية التى تلقاها وقيمة هدية الرد ومدين نفسيا أو ماديا بقيمة التعويض عن التأخير فى رد الهدية.

 

●●●

 

قد يشعر البعض استجابة لدوافع يمكن فهمها أو تحت ضغط ظروف استثنائية أنه غير مدين للمجتمع. نسمع فى الآونة الأخيرة من يرددون أن المجتمع أو الوطن لم يكن كريما معهم أو لم يضف إليهم شيئا بل ربما على العكس أخذ منهم ويطالبهم بتقديم المزيد دون وجه حق. يقولون إنهم لا يحملون له فى أعناقهم أى دين عاطفى أو مادى. ينسى هؤلاء أن الوطن الذى يأويهم نشأ واستمر بفضل ديون له فى رقبتنا.

 

لا نبالغ، حكومة ومواطنين، عندما نثمن الدين الذى فى أعناقنا للمجتمع والدين الذى فى عنق المجتمع لنا. لا نبالغ رغم أننا فى الحقيقة لا نعرف حجم هذا الدين. ولن نعرف. والأسباب واضحة، فالديون العاطفية يستحيل تقدير حجمها بالأرقام. أنا وأنت نعرف أننا مدينان لأهلنا، ولكننا لا نستطيع أن نقدر تماما حجم هذا الدين. ولن نفلح إن حاولنا. أعرف أيضا أن أفرادا قليلين أو كثيرين وعائلتى ووطنى، كلهم لا شك مدينون لى، ولكن لا أحد فيهم يستطيع أن يقدر تماما حجم ديونه المستحقة لى. أعتقد، بل ومقتنع تماما، بأنه لا أحد فى هذه الدنيا يحق له التدخل فى تقدير حجم ديونى العاطفية للآخرين ولا أحجام ديون الآخرين العاطفية لى، ولا أحد يحق له أن يطالبنى والآخرين بسداد ديوننا العاطفية.

 

●●●

 

يرى ديفيد جريبر فى كتابه الصادر بعنوان «الديون» أنه ربما كان من الأفضل عدم تشجيع من يفكر فى أن يسدد ديونه الإنسانية مرة واحدة، وهو ما يفعله عادة بعض كبار الأثرياء فى أمريكا. يخصص الفرد منهم مبلغا كبيرا يقدم منه أو من فوائده قروضا ميسرة للفقراء ويعالج به المرضى بالمجان وينفذ برنامجا لمكافحة الأمية وغيرها، ويتفرغ بعدها لأعماله وحياته العادية ويذهب إلى حال سبيله مرتاحا. فقد سدد مقدما ما يظن أنه مجمل ديونه للمجتمع وخلع عن رقبته طوق الدين لوطنه وأهله. ينسى هذا الإنسان الكريم أن بعض الديون مثل ديون المحبة والوفاء، أبدية وغير قابلة للسداد مقدما ودفعة واحدة. بعضها لا يصح ولا يجوز وضع نهاية لعلاقته بنا. فالهنود مثلا يعتبرون أنفسهم مدينين مدى الحياة للخالق والصينيون يعتبرون أنهم مدينون لآبائهم حتى بعد رحيلهم عن هذه الحياة الدنيا. أنا مدين بأخلاقى لمن غرسها ومدين بما أعلم لمن علمنى ومدين بسعادتى لمن أحبنى. ولا أحد يحق له أن يطالبنى بنسيان هذا الدين أو ذاك أو يطالبنى بتسديده وتحرير عنقى منه. ما لا يستطيع فهمه بعض الناس هو أن الشعور لدى المواطن أنه مدين لغيره مفيد له ولنا وللوطن بأسره.

 

●●●

 

انتهيت من كتابة هذه السطور قبل دقائق من الرد على محادثة هاتفية تسأل صاحبتها عن موعد توديع الكاتب الراحل سلامة أحمد سلامة وتؤكد لى أنها «عاشت وستعيش وفى عنقها دين لهذا الرجل».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي