أخيرا أعلنوا عن تشكيل حكومة جديدة فى مصر، وكان لإذاعة هذا الخبر وقع جيد فى نفوس ملايين المواطنين الذين انتظروا طويلا نتيجة المشاورات، ووقع فى نفسى ما لا أزال أجد صعوبة فى وصفه وصفا لائقا. أقول وقعا غير مألوف، أم أقول وقعا غير مريح وربما مثيرا للحيرة، إذ لم يحدث على امتداد سنوات عديدة أن تشكلت حكومة فى مصر من أشخاص تربطنى بعدد كبير من أعضائها علاقات وثيقة، وأعرف الكثير عن أغلبهم، واحتفظ مع عدد غير قليل منهم بذكريات عن تجارب خضناها معا ومواقف خلفت آثارا بعضها عميق وطيب ومفيد.
ما المشكلة إذن؟ وأين الدافع للشعور بالحيرة؟
●●●
لا أنكر أننى مشفق عليهم. ولا يقلل من إشفاقى علمى بأنهم يدركون تمام الإدراك المشاق التى تنتظرهم، ورداءة حال الطريق التى يتعين عليهم صعودها. هم ولا شك يشعرون بقسوة الأجواء المحيطة بحكومتهم، وقبل هذا وذاك، يقدرون صعوبة، إن لم تكن استحالة، تحقيق إجماع حقيقى بينهم على سياسات بعينها واتخاذ قرارات حاسمة فى مسائل حيوية ودقيقة. سيكون التوصل لإجماع مهمة صعبة لأسباب عديدة بعضها يتعلق بالبيئة المحيطة بهم داخليا وخارجيا، وأهمها يتعلق بنسيج هذه الحكومة وبخاصة التفاوت بين أيديولوجيات يعتنقونها وخبرات إدارية وفنية مارسوها، وخلفيات علمية وأكاديمية عاشوها. يبقى أمل هؤلاء معلقا بتوافق الجميع حول هدف عبور فترة التوتر الشديد التى مرت بها من قبل مجتمعات ثائرة عديدة قبل أن تضع أقدامها على مشارف المرحلة الانتقالية.
●●●
يجب الاعتراف أولا بأن هذه الحكومة يحتضنها رضاء شعبى لم يتوفر لحكومة مصرية سابقة، سواء فى عهد مبارك أو فى عهود بعده. وهذا فى حد ذاته رصيد محسوب لهذه الحكومة وفى الوقت نفسه محسوب عليها عندما تحين ساعة الحساب الختامى وهى غير بعيدة. يلزم أيضا الاعتراف بأنها تستلم الحكم فى ظل أجواء ملبدة بسحب سوداء وتحديات أقلها شأنا مقاومة الشعور بالخوف من استمرار حالة عدم الاستقرار. أظن أن لا أحد فى هذه الحكومة غافل عن حقيقة أن المصريين تغيروا فى عامين أكثر مما تغيروا فى مائة عام أو أكثر. شعب «تسيس» إلى حدود غير مألوفة وغير مستعد أن يدع قرارا يصدر لم يبد فيه رأيا. مواطنون يزعم عديدهم أن لهم دورا فى خلق الظروف التى جاءت بهذه الحكومة وربما فى اقتراح أسماء لشخصيات هم الآن أعضاء فيها ورفض أسماء خرجت فعلا من التشكيل.
أتخيل ما يدور فى ذهن وزير أو أكثر من الوزراء الذين يضمهم تشكيل هذه الحكومة. أتخيله وهو يحاول وضع خطة قصيرة الأجل، هدفها إشاعة الأمل والتفاؤل وتخفيف المعاناة. أتخيله يضع هذه الخطة بينما تعلو أصوات من حوله فى مصر وأنقرة وتونس وربما فى صنعاء وعمان وفى إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة، تتوعده وحكومته وشعبه بمصير دخلته الجزائر فى التسعينيات من القرن الماضى. أتخيله يخطط بينما أصوات أخرى تدعو علنا وجهارا ليتكرر فى مصر مشهد سوريا وهى تحترق.
●●●
من ناحية ثانية، أقدر تماما شعورا سائدا لدى وزراء بصعوبة تحقيق إنجاز معتبر فى زمن قصير للغاية، وبإمكانات مادية أيضا ضعيفة للغاية. بعض هؤلاء الوزراء محرومون من خبرة سابقة فى العمل الحكومى، هؤلاء سيتعرضون إلى مقاومة عنيفة من جانب قيادات بيروقراطية عتيدة ترفض الإصلاح والتجديد، بالإضافة إلى مقاومة من جانب قيادات جرى توظيفها خلال ما يعرف بمرحلة «تمكين» تيارات الإسلام السياسى وتنظيماته من مفاصل الإدارة المصرية. أتوقع أن عددا من الوزراء ستفاجئه شراسة المقاومة وكفاءة أسلحتها وقد تتسم ردود فعله بالارتباك أو السلبية بسبب خلفياته ونقص تجاربه التى تمنعه من استخدام قوة «البطش الناعم» التى تسمح بها القوانين العادية.
●●●
من ناحية ثالثة، يوجد فى هذا التشكيل الحكومى أشخاص فى حاجة لوقت حتى تثبت أنها صالحة لأداء مهام المرحلة. هذا الوقت لن توفره لهم الأجواء والظروف الراهنة. هؤلاء سوف يتعرضون منذ الأيام الأولى لامتحانات يومية على أيدى إعلاميين، مذيعين ومحاورين، تعودوا لمدة عام أو أكثر على لغة حوار وخطاب تتميز بالإثارة والمبالغة. لن تكون هذه اللغة جديدة على بعض الوزراء، وخاصة هؤلاء الذين دفعت بهم إلى الواجهة نفس شاشات التليفزيون وبرامج الكلام التى تقف الآن مستعدة لرد الجميل. عندئذ سوف يتعين على هذا الوزير أو ذاك إثبات أن قدرته على تقديم حلول عملية وواقعية وفورية لمشكلات الجماهير ليست أقل من قدرته على اقتراح الحلول والنصائح والبدائل الكلامية.
●●●
من ناحية رابعة، يرضينى ويقلقنى التنوع الأيديولوجى فى هذا التشكيل الحكومى. يرضينى هذا التنوع لأنه يعكس رغبة عامة فى قطاع الثوار من الشباب والكبار على حد سواء بضرورة إشراك ممثلين عن مختلف التيارات السياسية فى مصر فى حكم البلاد، وأتمنى أن تستمر هذه الرغبة وأن تتحقق. ويقلقنى هذا التنوع كلما تخيلت منظر الحكومة مجتمعة لاتخاذ قرار يحظى بموافقة أعتى ممثلى اليمين المحافظ اقتصاديا، وأعتى ممثلى اليسار الناصرى إجتماعيا. أقدر كل التقدير ولاء كل وزير لتياره وإيمانه بعقيدته السياسية ولكنى فى الوقت نفسه أشفق على رئيس حكومة مجبر على استصدار قرار لابد أن تتناقض بسببه المواقف، ربما إلى حد يهدد الحكومة بالانفراط المبكر.
●●●
المسئولية كبيرة ليس فقط لأن هذه الحكومة تتحمل عبء إدارة دولة فى ظروف صعبة ولكن أيضا لأنها وافقت ضمنيا على المشاركة فى عملية إنقاذ مصر من كارثة كادت تكون محققة. المسئولية كبيرة لأن هذه الحكومة تعهدت، بالأمر الواقع، بأن تقود البلاد إلى مشارف المرحلة الانتقالية التى فشلت الحكومات السابقة منذ يناير 2011 فى الوصول اليها. تأخر حلول المرحلة الانتقالية رغم أن دولا أجنبية وقطاعا مهما فى الشعب المصرى انتظر أن تقوم بهذه المهمة تيارات الإسلام السياسى ولم تفلح. وأظن أنها ما كان يمكن أن تفلح بعد أن تأخرت فى صنع توافق شعبى حول مشروعها السياسى والاجتماعى، ولم تقدم برنامجا اقتصاديا مقنعا أو على الأقل بملامح واضحة، وفرضت الشلل على أهم مؤسسات الدولة مثل الشرطة والقضاء وأثارت قلقا وشكوكا فى المؤسسة العسكرية، بمعنى آخر استغنت عن مؤسسات الدولة فى مرحلة حيوية من مراحل الاستعداد لتدشين المرحلة الانتقالية.
●●●
تأخرت قيادات الإسلام السياسى وأخطأت. نبهنا إلى عواقب التأخير وحذرنا من فداحة الأخطاء. الآن يتعين علينا أن نتكاتف لتعويض التأخير وتصحيح الأخطاء لنلحق بركب الدول التى تخوض غمار مرحلة الانتقال.