تعمد الأطراف المتناحرة فى سوريا إلى استخدام المساعدات سلاحا فى الحرب عبر منح الإذن لوصول المساعدات الإنسانية أو حجبه، مما يزيد من تعقيدات العمل الذى تقوم به منظمات الإغاثة. وقد عمد الأفرقاء المتناحرون فى الحرب الأهلية السورية إلى تسييس مسألة المساعدات عبر التحكم بآلية منح الأذون لوصول الإغاثة الإنسانية أو حجبها، وذلك بغية تنفيذ استراتيجياتهم العسكرية وتحقيق مآربهم السياسية. فالنظام يلجأ من جهته إلى تعطيل وصول المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار فى إطار استراتيجية متعمدة الهدف منها معاقبة مجموعات المعارضة وإضعافها دون قيام نظام سياسى بديل.
ويستخدم النظام أيضا مسألة تنظيم السلع العامة الأساسية وتوزيعها، من المواد الغذائية إلى التيار الكهربائى، من أجل مكافأة الموالين له وتعزيز تبعية المواطنين واعتمادهم عليه. وفى بعض الأحيان، جرى حتى تحويل المساعدات لدعم الجهود الحربية للجيش السورى. أما تنظيم الدولة الإسلامية فيستند فى منعه لوصول المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرته، إلى منطق مختلف إنما سياسى بالدرجة نفسها: تريد الدولة الإسلامية ممارسة سيطرة مطلقة وفرض حالة من التبعية الكاملة على المواطنين. فى هذا السياق، تصبح المساعدات مسيسة وتستخدم سلاحا فى الحرب بحكم الأمر الواقع.
نظرا إلى هذه الأوضاع، عمد المجتمع الدولى، خلال الأعوام القليلة الماضية، إلى تطوير مقاربته لتوزيع المساعدات فى سوريا، بعدما كانت الخطة التى تم التوصل إليها فى البداية عن طريق المفاوضات تقوم على الاعتماد فى شكل شبه كامل على التنسيق مع الحكومة المركزية من أجل تنفيذ عمليات الإغاثة الإنسانية فى سوريا. لسوء الحظ، عندما ينظر إلى مسألة المساعدات بأنها من الأدوات العسكرية الأساسية عبر التحكم بوصولها وتوزيعها، سرعان ما تصبح عمليات الإغاثة رهينة السياسة: يعمد النظام إلى تبطىء الآلية أو يمتنع عن الموافقة على مرور المساعدات بحسب ما تمليه مصالحه الاستراتيجية، فيساهم بدوره فى تقويض حياد المساعدات الإنسانية وعدم انحيازها.
وقد برز فى شكل خاص فى حرب الحصار السورية منع الوصول إلى السلع الأساسية، مثل الغذاء والماء والكهرباء، فى تكتيك بغاية الهمجية يؤدى إلى إضعاف المقاتلين والمدنيين على السواء. من الأمثلة الشهيرة الحصار الشديد الذى فرضه النظام على المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار شرق دمشق وجنوبها؛ وعلى مخيم اللاجئين الفلسطينيين فى اليرموك؛ وبلدتى مضايا وداريا، مع فرض حظر على دخول السلع إلى هذه المناطق، ومنع المدنيين من المغادرة عبر إنشاء نقاط تفتيش عسكرية أو زرع ألغام أرضية مضادة للأفراد، تضور السوريون المحاصرون جوعا حتى الموت.
***
بحسب التقرير الصادر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا فى فبراير 2016، تعرض أكثر من 400 ألف مدنى للحصار، فيما تقيم 4.5 ملايين نسمة فى مناطق حيث المساعدات نادرة ومتقطعة. لكن على الرغم من الحالات التى أتاح فيها النظام وصولا مؤقتا لعمليات الإغاثة إلى المناطق المحاصرة، والتى حظيت بترويج واسع، ازدادت الأوضاع سوءا. ففى يونيو 2016، أشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن نحو 600 ألف شخص لا يزالون عالقين فى ثمانية عشر موقعا محاصرا فى مختلف أنحاء البلاد ــ على أيدى النظام، إنما أيضا على أيدى أفرقاء آخرين فى النزاع، منهم تنظيم الدولة الإسلامية.
من التكتيكات التى تستخدم أيضا على نطاق مكثف ضد المدنيين منْع الوصول إلى العناية الطبية واستهداف الطاقم الطبى والبنى التحتية. فعلى سبيل المثال، أوردت لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة أنه من أصل 33 مستشفى كانت تستقبل المرضى فى حلب فى العام 2010، استمرت أقل من عشرة مستشفيات فى مزاولة عملها فى فبراير 2016. فى الشهر نفسه، أعلنت منظمة «أطباء بلا حدود» عن اتخاذها قرارا بالامتناع عن إطلاع القوات السورية والروسية على البيانات المتعلقة ببعض منشآتها الطبية، مبدية خشيتها من أنه من شأن تشارك هذه البيانات أن يجعل المنشآت أكثر عرضة للاستهداف بدلا من حمايتها وضمان أمنها.
***
لا يزال النظام السورى يعتبر أن المساعدات التى تشكل حاجة ماسة، هى أداة يستخدمها المجتمع الدولى لتعزيز المعارضة التى يسعى النظام جاهدا لسحقها ــولا تزال مناطق واسعة تحت الحصار مع استمرار النظام فى المماطلة فى منح موافقته لدخول وكالات الإغاثة أو مع امتناعه عن منح هذه الموافقة. ومما لا شك فيه أن الإجراءات العملية مثل السماح بإلقاء المساعدات من الجو وتيسير إنشاء جسور جوية، يمكن أن تمارس تأثيرا إيجابيا عبر الالتفاف على الحواجز الجغرافية التى يقيمها النظام، إلا أنها ليست كافية.
يطرح إيجاد حل لهذا المأزق تحديا هائلا. فما دامت المنظمات الإنسانية ووكالات الإغاثة تتفاوض مع الحكومة وتنسق معها، يتيح ذلك للنظام التحكم بها عبر السماح لها بإيصال المساعدات أو منعها من ذلك، بحسب ما تمليه مصالحه السياسية والعسكرية. وهكذا يبقى عدد كبير من السوريين الضعفاء محرومين من المساعدات، كما يتسبب ذلك بتقويض حياد المنظمات الإنسانية وعدم انحيازها، ما يجعل عمال الإغاثة أكثر عرضة للاستهداف من جميع الأطراف. بيد أن تجاهل سماسرة النفوذ على الأرض أو تجاوزهم تترتب عنه أيضا كلفة باهظة. فغياب التنسيق يزيد من المخاطر التى يتعرض لها عمال الإغاثة، لأنه من دون الحصول على إذن واضح للعمل، قد يجدون أنفسهم فى دائرة الاستهداف المباشر من النظام السورى.
بناء على هذه المعطيات، يثير التفاوض حول إيصال المساعدات الإنسانية انقسامات وسجالات حادة فى صفوف المعنيين بالشأن الإنسانى على الساحة الدولية. ففى حين دعت بعض المجموعات البارزة، مثل «أطباء بلا حدود»، إلى تعزيز الجهود عبر الحدود ومنع النظام من تسييس المساعدات، تصر مجموعات أخرى ــمثل اللجنة الدولية للصليب الأحمرــ على موقفها الداعى إلى وجوب «العمل مع جميع الأفرقاء»، ما يسلط الضوء على الصراع الحقيقى من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من مبادئ الحياد وعدم الانحياز.
بينيديتا برتى