لا يكفى أن نعلن الحداد، أو نذرف الدموع، أو نطلق التهديدات، أو نلقى بالاتهامات جزافا فتصيب الصديق قبل العدو، أو نسارع إلى شن حملات عسكرية ثأرية وانفعالية، أيضا قد تطال الأبرياء قبل الآثمين. أتحدث بالطبع عن توابع الجريمة النكراء التى ارتكبت قرب الحدود لحظة غروب شمس يوم الأحد الخامس من أغسطس الجارى. غير أن الأخطر من كل ما سردته آنفا تلك الأقوال المرسلة التى تحاول الحط من إنجازنا العظيم فى تحرير سيناء، تارة بالادعاء أن سيناء قد نزع سلاحها بمقتضى معاهدة السلام، وتارة أخرى بالقول أن يد مصر قد أضحت مغلولة، مما أفقد مصر السيادة على شبه الجزيرة. وفى وسط هذا اللغط أطلقت الدعوات للتنصل من المعاهدة جملة وتفصيلا وليكن ما يكون!
•••
غير أننى أردت من مقالى هذا اليوم أن أتحدث عن ثلاثة إجراءات لا مناص من اتخاذها، وبشكل فورى، كى نتمكن من استئصال شأفة الإرهاب فى سيناء تماما، إنما وقبل أن أتحدث عن هذه الإجراءات الثلاثة بقدر من التفصيل، أو أن أعود إلى اللغط المثار حول معاهدة السلام المبرمة فى عام 1979، وذلك من أجل الرد على هؤلاء الذين يبغون التشكيك فى قدراتنا وفى إنجازاتنا. أقول لهؤلاء إن معاهدة السلام المفترى عليها قد صيغت بعناية فائقة، ولا أبالغ إذا قلت إن كل كلمة وردت فيها، وكل بند أتت المعاهدة على ذكره، قد أخذ الوقت الذى يستحقه فى جلسات المفاوضات المتعاقبة والتى استغرقت أكثر من ستة أشهر. ترأس وفد التفاوض المصرى وزير الدفاع ووزير الدولة للشئون الخارجية وضم الوفد رجال القانون، والدبلوماسيين، والخبراء فى شتى المجالات، وقيادات من القوات المسلحة، ومن جهاز المخابرات. وأشهد ــ وقد كنت من أعضاء وفد التفاوض المذكور ــ أن أزمات عدة قد نشبت أثناء عملية التفاوض مما أدى إلى توقفها لأكثر من مرة. ولجأ وفد التفاوض فى مناسبات عديدة إلى الوسيط الأمريكى ممثلا فى الرئيس جيمى كارتر كى يتدخل من أجل حل الخلافات والتغلب على المصاعب. ولم يتردد الرجل فى التنقل بنفسه بين البلدين من أجل إنقاذ مفاوضات المعاهدة من الانهيار.
•••
وللتذكير أيضا فقد جرت مناقشة بنود المعاهدة تفصيلا فى مجلس الشعب المصرى، ثم عرضت المعاهدة على الشعب المصرى فى استفتاء عام. لذلك فأى كلام يثار حول وجود تقصير من قبل المفاوض المصرى أو القيادة المصرية، أو التساهل فيما يتعلق بممارسة السيادة المصرية على الأرض المحررة، هو مجرد هراء. لقد تم وضع كل الضمانات فى المعاهدة بالتزام طرفيها بكل نصوص ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولى، بما فى ذلك حق الدفاع الشرعى الفردى والجماعى، والتأكيد على أن الحقوق والالتزامات التى وردت فى ميثاق الأمم المتحدة هى التى تحظى بالأولوية المطلقة على أية التزامات وردت بالمعاهدة. عادت إلى مصر ثرواتها التى نهل من خيراتها الاحتلال لسنوات، ومن خلال التحكيم، الذى نصت عليه المعاهدة كوسيلة لحل الخلافات، أكملت إسرائيل انسحابها من آخر شبر من الأرضى المصرية فى طابا.
•••
أعود إلى الإجراء الأول الذى نطالب به وهو إعادة النظر فى ترتيبات الأمن فى سيناء. وأقول فى هذا الصدد أنه بالرغم من أن معاهدة السلام جاءت خالية من سقف زمنى لمدة سريانها، إذ لا يتصور أن يرتهن السلام بتاريخ معين نعود بعده إلى حالة الحرب، إلا أن المعاهدة نصت على إمكانية إعادة النظر فى ترتيبات الأمن فى أى وقت من الأوقات من قبل أى من طرفى المعاهدة، ويلتزم الطرف الآخر بالرد على هذا الطلب فى مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر. ولا شك أن مقتضيات الحفاظ على الأمن القومى المصرى يتطلب أن نقدم طلبا على الفور من أجل التفاوض حول ترتيبات الأمن التى تم الاتفاق عليها منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما، ولم تعد صالحة اليوم لمواجهة التطورات التى حدثت منذ ذلك الوقت، خاصة فيما يتعلق بأنواع السلاح والعتاد الذى أصبح فى حوزة الجماعات المتطرفة. ولابد وأن نطلب وجود العدد الكافى من القوات المصرية المسلحة فى المنطقة المحاذية للحدود (المنطقة ج)، على أن تكون مزودة بجميع العناصر البرية والجوية والبحرية، التى تمكنها من الحفاظ على أمننا القومى. لا أتصور أن إسرائيل يمكنها أن ترفض أى مطلب مصرى فى هذا الخصوص، وهى التى تدعو مصر منذ مدة إلى إحكام السيطرة على هذه المناطق فى سيناء. وفى استطاعة مصر أن تطلب من الولايات المتحدة ــ التى تطالب مصر أيضا بتعزيز إجراءات الأمن فى سيناء وتبدى استعدادها لأن تقدم لمصر ما يمكنها من ذلك ــ أن تضغط على إسرائيل إذا لم تتجاوب الأخيرة مع المطالب المصرية أو حاولت التسويف أو المماطلة.
•••
على الجانب الثانى، لا خلاف حول ضرورة إغلاق أنفاق التهريب مرة واحدة وإلى الأبد. ولاشك أن وجود هذه الأنفاق طوال الفترة الماضية قد أحدث خللا أمنيا ضخما وانتهاكا للسيادة المصرية. إنما وبالتزامن مع ذلك لابد من فتح معبر رفح تماما أمام انتقال البضائع من وإلى قطاع غزة، وبشكل مباشر وليس عبر إسرائيل. لم أتفهم على الإطلاق مبررات تأخر مصر فى تطوير معبر رفح بحيث يسمح بانتقال البضائع ودخول الشاحنات وخروجها عبرة. والواقع أن اتفاقية المعابر التى تم التوصل إليها بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل وبمشاركة أمريكية فى 15 نوفمبر 2005 قد نصت على أهمية تطوير معبر رفح بحيث يمكن انتقال البضائع عن طريقه. متى تم هذا الإجراء فلن يكون لأهل غزة أى حاجة إلى الأنفاق وتهريب الاحتياجات الأساسية التى يتفنن الاحتلال الإسرائيلى فى وسائل حرمانهم منها.
بقى موضوع تنمية سيناء، وأذكر فقط فى هذا الشأن ترعة السلام التى تنقل الماء العذب من شرق الدلتا إلى شبه جزيرة سيناء عبر أنفاق ضخمة تمر أسفل قناة السويس. هذا المشروع الواعد هو ما يجب التركيز على استكماله حاليا، حيث يوفر المياه لزراعة حوالى نصف مليون فدان، ويسمح بإقامة المجتمعات السكانية على امتداد ترعة السلام وصولا إلى أقصى نقطة فى شرق شبه الجزيرة. ليكن ذلك المشروع الآن هو مشروعنا القومى الأول للسنوات المقبلة.
اقتلاع جذور الإرهاب فى سيناء ليس بالمهمة المستحيلة، المهم أن يتم تحركنا على المحاور الثلاثة المقترحة بالتزامن مع بعضها البعض وبالجدية والإصرار.