دروس من تنامى اقتصاد آسيوى... تجربة فيتنام - محمد يوسف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 10:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دروس من تنامى اقتصاد آسيوى... تجربة فيتنام

نشر فى : الثلاثاء 18 أغسطس 2020 - 8:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 أغسطس 2020 - 8:20 م

فى هذه المرحلة الحرجة التى يقف فيها عالمنا العربى على عتبات مستقبل ملىء بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية، حرىٌّ بنا أن نتأمل ونتفكر مليا فى التجارب الدولية التى سبقتنا على مضمار التصنيع والتقدم الاقتصادى. وكما هو معلوم، فإن التأمل فى هذه التجارب ليس من قبيل الترف الفكرى الذى يقع فيه المتكاسلون، ولا هو هدف فى حد ذاته؛ بل هو الطريقة المثلى لتحديد مكامن الخلل فى تجاربنا الاقتصادية العربية مقارنة بهذه التجارب الناجحة؛ وبه نستلهم العبر ونشحذ الهمم فى طريقنا التنموى الشاق.
وقارة آسيا مازالت تبهرنا بقصصها حول النجاح الاقتصادى؛ إذ تزخر بالعديد من القصص اللامعة قديما وحديثا. فمن كوريا الجنوبية إلى الصين، مرورا بهونج كونج؛ ومن سنغافورة إلى ماليزيا، وصولا إلى فيتنام؛ صرنا أمام رقعة جغرافية هى الأبرز فى الصعودى التصنيعى فى عالمنا المعاصر، وهى الأسرع فى إنجاز التراكم والنمو الاقتصادى. والقصة الآسيوية التى سنحاول سبرها فيما يلى تدور حول تنامى الاقتصاد الفيتنامى.
***
هناك أسباب متنوعة دفعتنى للكتابة عن تجربة فيتنام الاقتصادية. أولها أنها ــ أى فيتنام ــ قريبة الشبه، فى خلفياتها الاجتماعية والسياسية، من واقعنا العربى؛ وهذا التشابه يجعلها جديرة بالدراسة وملائمة للمحاكاة. وثانيها أن الاقتصاد الفيتنامى، وإن كان يسير بخطى سريعة نحو التحول من اقتصاد شبه صناعى لاقتصاد صناعى معتمد على ذاته، لكنه لم يتجاوز بعد هذه المرحلة التنموية؛ أى أنه لا يبعد كثيرا عن واقعنا الاقتصادى العربى. وثالثها أن مؤشرات الإنجاز التى حققها هذا الاقتصاد وهو فى طور التحول الاقتصادى غنية بالدروس التى يمكن لعالمنا العربى الاستفادة منها فى تطوير سياسات تنموية ــ قُطرية وقومية ــ كفيلة بإقالته من عثراته الاقتصادية المتعددة.
على أن الإنجاز التنموى الذى يمكن لأى تجربة ناجحة أن تحققه يكمن فى ثلاثة مقومات؛ ففى خصائص البشر، وفى البنيان الاقتصادى وقوى الإنتاج، وفى استدامة النمو الاقتصادى تتألف هذه المقومات الثلاثة. فأما عن خصائص القوى البشرية فى فيتنام المعاصرة، فاعتمادا على مؤشرات التنمية العالمية التى يرصدها وينشرها البنك الدولى، فإن سكان هذا البلد الساحلى قد استفادوا كثيرا من تسارع معدلات التنمية المحققة. فبعدما كان الفيتنامى يعيش عمرا متوقعا عند ميلاده متوسطه أقل من 60 عام خلال ستينيات القرن الماضى، زاد هذا المتوسط ليصل إلى 75 عام حاليا. وهو متوسط يزيد عن نظيره العربى، ويقترب من المستوى المحقق فى الدول المتقدمة وعالية الدخل. والتحسن فى خصائص القوى البشرية لم يحدث فى متوسط العمر المتوقع عن الميلاد فقط، لكنه شمل أيضا جودة هذا العمر من الناحية التعليمية والناحية الصحية، للتوسع الملحوظ فى قدرات الحكومة الفيتنامية على إشباع هذه الخدمات الاجتماعية. ونظرة سريعة على مؤشرات الإنفاق الحكومى على التعليم والصحة كفيلة بإثبات هذه الحقيقة. فحصة التعليم والصحة من جملة الإنفاق الحكومى تدور حول ربع هذا الإنفاق بكامله خلال العقد الماضي؛ ونسبة الأمية فى صفوف الكبار لا تزيد حاليا عن 5% من جملة السكان فوق 15 عام، بينما تبلغ هذه النسبة عربيا 25% تقريبا!
وإذا كان الاقتصاد الفيتنامى يتبنى النهج الاشتراكى المتصالح مع السوق، فيمكننا القول، وبثقة كبيرة، أن ما تحقق من تحسن فى خصائص قواه البشرية يعود لتنامى قدراته التصنيعية وتحوله من اقتصاد زراعى لاقتصاد شبه صناعى. فنحن نؤمن يقينا أن التصنيع التنموى هو عماد التقدم الاقتصادى والاجتماعى. فإذا نظرت مثلا لمساهمة الصناعة التحويلية فى الاقتصاد الفيتنامى، فسترى ما يبهرك. فمن منتصف ثمانينيات القرن الماضى، والتسارع التصنيعى الفيتنامى يأخذ بالألباب. فبينما نمت قدرات العرب التصنيعية بمعدل متوسطه 3% سنويا من حيث القيمة المضافة، كان هذا المعدل فى فيتنام يبلغ 9%. وما لبثت أن انعكست آثار هذا التقدم الصناعى على هيكل التجارة الخارجية الفيتنامى باختفاء العجز من حسابه الحالى وتحوله لحالة الفائض. فمن حيث الكم، تفوقت الصادرات الصناعية على الواردات الصناعية باستمرار؛ وحازت الصادرات المُصنعة على معظم صادراته بنسبة وصلت 85% تقريبا من جملة الصادرات السلعية، مع تراجع شديد فى حصة المواد الخام منها. ومن حيث نوعية الصادرات، فإن الصناعات عالية التقنية تشكل 40% من جملة صادراتها المصنعة، بقيمة 83 مليار دولار تقريبا فى العام 2018. وإذا قارنا ذلك بعالمنا العربى، وإذا علمنا بأن صادرات كل العرب من الصناعات عالية التقنية بلغت فقط 4.5 مليار دولار فى العام 2017، وأن هذه الصادرات مثلت 5% تقريبا من جملة الصادرات العربية السلعية، سنعلم حينها حجم الإنجاز التصنيعى الذى حققته فيتنام!
ومن غير المستغرب، ومعدل التوسع والنمو الاقتصادى الفيتنامى المستمر منذ ثمانينيات القرن الماضى يدور حول معدل بالغ السرعة يبلغ 7% سنويا فى المتوسط، أن يتحقق لهذا الاقتصاد الأمن الغذائى، بتفوق ما ينتجه من غذاء على ما يستهلكه؛ وأن يتحسن أداء أغلب المؤشرات الكلية المالية والنقدية، باستقرار معدلات التضخم وعجز الموازنة العامة والمديونية؛ وأن تتراجع مؤشرات البطالة والفقر، ناهيك عن التراجع الواضح فى معدل النمو السكانى، ليبلغ عدد سكان فيتنام حاليا نحو 96 مليون نسمة تقريبا. وككل التجارب التصنيعية الناجحة، تقدم لنا تجربة فيتنام دليلا جديدا على الحقيقة التى نصدح بها دائما حول العلاقة السببية بين السكان والتنمية. إذ لا يصح لدينا القول بأن نمو السكان هو المعطل للنمو الاقتصادى. ولأننا نعلم يقينا أن المشكلة السكانية هى نتيجة للمشكلة الاقتصادية وليست سببا فيها، فعندما يتسارع النمو الاقتصادى يتراجع عدد السكان، وتختفى المشكلة السكانية كما يحدث حاليا فى فيتنام، وكما حدث مرارا وتكرارا فى تجارب الدول الصناعية الرئيسية!
***
إننا نرد هذا الإنجاز الفيتنامى الباهر للنجاح فى صياغة وتطبيق خطة وطنية فى الاعتماد على الذات، وسليمة فى تحديد الغايات، ودقيقة فى اختيار بدائل التطوير والتحديث الصناعى، وذكية فى اقتفاء أثر القدوات، وكفؤة فى استغلال الموارد الاقتصادية الاستغلال الأمثل. ولذلك، وفى تفسيرنا لهذا الإنجاز، نرى تضافر عوامل داخلية وإقليمية ودولية مواتية للنجاح الاقتصادى. فأما عن العوامل الداخلية، نذكر اتباع فيتنام لسياسات صناعية زادت من الاقتدار الصناعى الوطنى، وموجهة بالأساس للصناعات عالية القيمة المضافة المكونة محليا. وهو ما انعكس فى الفائض المحقق فى الميزان الصناعى التكنولوجى. والسياسات الصناعية السليمة استدعت سياسات مالية ونقدية تؤازرها ولا تعارضها، وتطلبت توسعا فى الإنفاق على البحث العلمى، وهو عين ما شهده الاقتصاد الفيتنامى إبان نهوضه الصناعى الحالى. وكان من نتائج جهود تذليل جميع العقبات أمام أنشطة التصدير التنموى، أن نمت التجارة الخارجية الفيتنامية وانتشرت حول العالم، وتقبلت الأسواق العالمية المنتجات الفيتنامية بقبولٍ حسن. وقد أحسنت السياسات الاقتصادية الفيتنامية صنعا حينما ركزت على تعزيز كفاءة استغلال الموارد الاقتصادية. من ذلك مثلا أنها توسعتــ كما أسلفناــ فى الاستثمار فى القدرات البشرية الوطنية تعليما ورعاية طبية واجتماعية؛ وأنها لم تعمد إلى السياسة السهلة لاستنضاب مواردها الطبيعية بالتصدير الجائر تارة، وبالإهمال تارة أخرى؛ بل نجدها تمكنت من توسيع مساحة الرقعة الصالحة للزراعة، الواسعة أصلا.
وبالتزامن مع تهيئة السياسات الصناعية الداخلية، اتجهت جهود التنمية فى فيتنام لاقتناص الفرص المحيطة بالإقليم الجغرافى المحيط بها، وفطنت سريعا لأهمية وأثر الاستثمارات الكورية فى صناعة تنمية محلية. فها هى الثمرات الطبية تتساقط من شجرة الاستثمارات الصناعية الكورية فى فيتنام، ليتشكل العامل الثانى من عوامل تنميتها. ولأنها تعى دروس التنمية جيدا، فالسياسات الصناعية الفيتنامية الوطنية تجدها تسير الآن على خطى كوريا الجنوبية خطوة بخطوة، وتراها لا تكتفى بمجرد القيام ببعض الأنشطة التجميعية الخفيفة للمنتجات التكنولوجية الكورية عالية التكنولوجيا. وتظهر هذه الإرادة التنموية جلية فى هيكل الصادرات الواردات الفيتنامية. كما نلمس فى تجربة فيتنام تطبيقا عمليا للمثل القائل بأن من جاور السعيد يناله قسط من السعادة. فلقد فتحت جيرة فيتنام للصين الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الصينية، وأمام الاستثمارات الخارجة من الصين، وأمام الاستثمارات التى لم تستطع دخول الصين لكنها تستهدف سوق الصين الواسع. ونتيجة لهذه الجيرة الطيبة، ولأنها أحسنت وفادتها، تدفقت خلال الخمس سنوات الماضية عشرات المليارات من الدولارات فى شكل رءوس أموال أجنبية للتوطن فى أنشطة استثمارية إنتاجية؛ وكان نصيب العام 2018 وحده ما قيمته 15 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وبلا ريب، فلقد عززت هذه الاستثمارات المتدفقة من الإنجاز الفيتنامى فى مجالات التجارة الخارجية، ونقلت صناعتها الوطنية نقلة كبيرة فى طريق التحديث والتميز؛ ومن ثم، تصبح هذه الاستثمارات الأجنبية التنموية ثالث ثلاثة من العوامل المسئولة عن تنامى الاقتصاد الفيتنامى.
***
إنك إذ تتأمل فى نتائج التجربة الفيتنامية المتميزة فى النجاح التصنيعى، لن يسعك إلا أن تتساءل عن فرص تكرارها فى واحدة أو أكثر من دولنا العربية، وعن الدروس التى يتعين على العرب ــ فرادى وجماعات ــ أن يستخلصوها من مثل هذه التجارب. أفلا تمتلك الاقتصادات العربية من المقومات المحلية والإقليمية والدولية ما يجعلها رائدة فى مجالات التصنيع التنموى؟! أوليست أسواق العرب هى الرئة الواسعة التى تتنفس منها الدول الصناعية فى عالمنا المعاصر؟! ألا يمكن استغلال الموارد البشرية العربية فى صناعة نهضة اقتصادية عمادها التصنيع؟! أولم نتأكد بالتجربة أن البرامج الاقتصادية التى لا تضع التصنيع فى مصاف أهدافها هى مجرد برامج للتثبيت والتكيف مع الاقتصاد العالمى الجائر؟! وإلى متى يمكن للعرب أن يتركوا هم التصنيع لغيره من الهموم، مهما بلغت درجة إلحاحه؟!
إننا إذ نعتقد أن تداعى مؤشرات الاقتدار الصناعى فى أى اقتصاد لا يجد له أى مبرر أو حجة فى عالم تحقق فيه دولة كفيتنام نهضتها الصناعية، رغم ميراثها الثقيل من المشكلات العويصة؛ فإذا أقر الجميع بذلك، فما على دولنا العربية إلا أن تعيد النظر فى سلامة سياساتها الاقتصادية المحلية وفى كفاءة وفاعلية برامجها التكاملية؛ لا بحثا عن ضالتنا فى غايات تحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعى، فهى واضحة وضوح الشمس؛ بل استدراكا لما فاتنا من إمكانات وفرص قد لا تتكرر فى المستقبل!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات