عندما تخرج من البوابة الشرقية الجنوبية للبلدة القديمة، باب المغاربة، أو باب سلوان، تجد نفسك على الطريق الدائرى المحيط بمدينة القدس، وغالبا ما ترى الحافلات يترجل منها سياح غربيون من كبار السن: تراهم يقفون على حافة الطريق عند السور يتطلعون إلى الوادى الخصيب ببيوته الجميلة المتلاصقة، ربما يلحظون تلك السيدة التى تصحح الكراريس فى شرفتها الواسعة، ويبتسمون لرؤية الطفلة ذات الشعر اللامع والسنوات الأربع وهى تقود دراجتها فى الباحة، وسوف يتذكر بعضهم أحفادا محبوبين فى كانساس أو أوتاوا.
لو أننا فى إيطاليا أو إسبانيا أو حتى تركيا لانتهى الأمر هنا: يأتى السياح، يتفرجون على المكان، وينفقون بعض النقود، ثم يرحلون. لكننا، فى القدس وفى جوارها، نرى التأثير المدمر لهؤلاء السياح، وهم فى جهل عنه. هذه البلدة التى ينظرون إليها والتى تفترش الجبل والوادى جنوب القدس هى سلوان، موطن خمسة وخمسين ألف فلسطينى، استولت عليها إسرائيل حين أخذت القدس عام ١٩٦٧، وهى حاليا محل تضاد حاد بين حقوق السكان الفلسطينيين وبين خطط إسرائيل للمنطقة، خطط تنفذ عن طريق سيل من الإجراءات الإدارية والتحالفات السرية والمشاريع التى تدعى التقدم، خطط ما كان لها أن ترى النور لولا الأموال التى تنهمر على إسرائيل من الغرب.
ماذا يعرف السياح عن كل هذا؟ هؤلاء المسنون المسالمون الذين وصلوا إلى هنا على متن حافلات الصندوق القومى اليهودى ليزوروا موقع التنقيب عن مدينة داود، المدينة التى يدعى الإسرائيليون أنها تقع تحت حى وادى حلوة فى سلوان ليبرروا الحفائر التى يحفرونها والأنفاق التى يشقونها فى بطن الجبل تحت منازل أهل البلد.
تقول مريم وهى تضع الكراسات جانبا «هذا الطريق الممتد من القدس عبر الوادى كان طريقا رئيسيا، وكانت المتاجر التى تقع عليه تدر دخلا جيدا سواء كانت محال آيس كريم أو كافيتريات أو مطاعم أو محالا تبيع الهدايا التذكارية، حتى جاءت إيلاد وأنشأت منظمة مدينة داود، فهم يصطحبون الزوار إلى مركزهم ولا يسمحون لهم برؤيتنا بالمرة».
من عادات سلوان المتأصلة ــ وبالذات حى وادى حلوة ــ الترحيب بالغرباء، فسلوان آخر بلد يستريح فيها القادم إلى القدس من جهة الجنوب، كما أنها منتزه مفضل لسكان القدس أنفسهم، يقصدونها للنزهات الخلوية، ويلعب الأطفال أثناء الصيف فى كهوف نبع عين سلوان الرطبة. اليوم، وحتى فى ظل الظروف التى تعيشها البلاد، يسألنى الناس، وسط الأتربة والضجيج المميكن الذى تولده ايلاد، إن كنت أزور سلوان من أجل «شمة هواء».
إيلاد بالعبرية تعنى «إلى مدينة داود»، أسسها ديفيد بئيرى عام ١٩٨٦ وقد ترك الجيش «تحت تأثير إحساسه برغبة الشعب اليهودى الجارفة فى العودة إلى صهيون»، وجعل رسالتها «تعزيز الروابط المعاصرة والتاريخية بين إسرائيل والقدس».
من بين أعضاء مجلس إدارتها ثلاثة من مجلس قيادة المستوطنين. وقد ظلت إيلاد لمدة طويلة ترفض الكشف عن هوية مموليها لمسجل المنظمات غير الهادفة للربح، وحين تقدمت أخيرا بالأسماء فى ديسمبر ٢٠٠٧ طلبت عدم نشرها؛ لأن ذلك «قد يضر بالمنظمة والمانحين»، واستجاب المسجل لطلبها. ويذكر أن (المليارديرين الأمريكيين) ليف ليفاييف ورومان أبراموفيتش قد شوهدا فى عدد من المناسبات التى تقيمها إيلاد.
اتبعت إيلاد إستراتيجية اختراق مزدوجة.
لتعزز «الرابطة بين إسرائيل والقدس» بدءوا فى الحفر تحت سلوان وتحت المسجد الأقصى بحثا عن مدينة داود التوراتية ولخلق المزار السياحى «مدينة داود»، وقد ادعوا أن ما يقومون به من تنقيب هو عملية إنقاذ سريع للآثار، وبهذا تحايلوا على ضرورة استخراج تصاريح رسمية للحفر، وقد استمرت عملية «الإنقاذ السريع» هذه ما يزيد على عشر سنوات حتى الآن، وبدأت بيوت وادى حلوة فى التصدع والهبوط.
أما من أجل «مساعدة الشعب اليهودى على العودة إلى صهيون» فقد بدأت إيلاد عام ١٩٩١ فى الاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية فى سلوان، وذلك بمساندة قوية من آرييل شارون الذى كان فى ذلك الوقت وزير البناء والإسكان. واستهدفت إيلاد أساسا حيين من أحياء سلوان: حى وادى حلوة، وحى البستان.
كان أول صيد لإيلاد هو دار آل عباس، وكانت تشمل ٩ شقق ومخزنين. حكت ميشيل زوجة ديفيد بئيرى «إن عباس كان المسئول عن النبع، فأخذ ديفيد كارنيه مرشد سياحى ووضع صورته عليه وبدأ يصطحب سواحا مزيفين فى رحلات سياحية.. حتى صارا صديقين.. وطبعا كان الأمر كله مسرحية.» فى عام ١٩٨٧ ضغطت إيلاد على الإدارة الأمريكية كى تعلن دار عباس «ملكية مالك غائب»، وفى أكتوبر ١٩٩١ قاد بئيرى مجموعة من المستوطنين اقتحموا البيت فى عملية شبه عسكرية، وأخذ الدخلاء يغنون ويرقصون ورفعوا العلم الإسرائيلى على سطح المنزل فى الفجر.
لجأت عائلة عباس إلى المحاكم، وحكم قاضى منطقة القدس بـ«عدم وجود أساس واقعى أو قانونى» لعملية الاستيلاء على البيت، بل ووصفها بعملية «تفتقر بشدة للأمانة»، ورغم ذلك فما زال النزاع القضائى مستمرا، وما زال أعضاء إيلاد يحتلون البيت ويقومون بمحاولات للاستيلاء على غيره من الممتلكات الفلسطينية، وقد استولوا حتى الآن على نحو ٢٥٪ من وادى حلوة من خلال حزمة من الإجراءات تلجأ إليها إسرائيل للسيطرة على الشئون الفلسطينية: قانون الملكية الغائبة، ونزع الملكية للمصلحة العامة، ومصادرة وإزالة البيوت المبنية بدون تصاريح.
بنى أ ق حجرة لأطفاله ملحقة ببيته فى وادى حلوة، «غرفة واحدة على أرضى وفى حدود نسب البناء التى يسمح بها القانون، قدمنا طلب تصريح والبلدية تماطل فى البت فيه، إذا منحونا التصريح بيكلف حوالى خمسين ألف دولار، وكل سنة يفرضوا علينا غرامة، دفعت ٧ غرامات حتى الآن مجموعها عشرة آلاف دولار، هذا غير الأرنونة (الضريبة العقارية) ــ تأخرنا مرة فى دفعها فجاءوا وأخذوا التليفزيون والرسيفر والدى فى دى، ولما سددنا لم نستعد الأجهزة. باتصور رواتب حكومة إسرائيل كلها تأتى من غرامات الفلسطينيين».
ما يحدث فى سلوان ليس فريدا بل هو جزء لا يتجزأ مما يحدث فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وإن اختلفت الأساليب من مكان لآخر، فقبل قدومى إلى سلوان تجولت أسبوعا فى الضفة ورأيت كيف أن كل مجتمع سكنى فلسطينى له مستوطنته التى تتربص به، تكاد لا تجد موقعا فى الضفة ترفع فيه بصرك فلا ترى مستوطنة محاطة بالأسلاك الشائكة، ترتفع فوقها الأعلام والهوائيات والكاميرات، وتختبئ داخلها الأسلحة: بيرزيت لها بساجوت، بيت لحم لها حارحوما، بيت جالا لها جيلو، والخليل مصطفاة، لها كيريات أربع فى الضواحى وأفرام أفينو وتل الرميدة فى القلب، والقدس تفوق الجميع فتمسك بخناقها المستوطنة العملاقة معالى أدوميم من الشرق والمستوطنات فى الشيخ جراح والبلدة القديمة فى وسط المدينة وسلوان من الجنوب.
استيلاء إيلاد على الممتلكات الفلسطينية يتبع التكتيك الإسرائيلى المعروف فى خلق واقع على الأرض، بينما مشروع مدينة داود يخلق واقعا فى العقول.
يتفق معظم العلماء على أنه لم تظهر إلى الآن أى أدلة على وجود آثار للنبى داود أو لسيدنا سليمان فى موقع التنقيب، لكن السياح من أمريكا الشمالية تسحرهم القصص التى يحكيها لهم مرشدو إيلاد، وهى قصص تقوم تماما على التخمينات والتوقعات والأساطير، بل وأحيانا على الكذب الصريح. يقول البروفيسور رونى ريخ من هيئة الآثار الإسرائيلية: «وجدت حفرة بيزنطية فقالوا إنها جب إرميا، فقلت لهم إن هذا هراء»، لكن المرشدين ظلوا يقولون للسياح إن هذا هو الجب الذى رمى فيه إرميا. يأتى إلى هنا نحو نصف مليون سائح كل عام، يتلقون التاريخ من منظور إيلاد. كتب الأستاذ بينيامين زئيف كيدار، رئيس مجلس إدارة هيئة الآثار الإسرائيلية، فى خطاب عام ٢٠٠٨: «تدرك هيئة الآثار الإسرائيلية أن إيلاد ــ وهى منظمة ذات أهداف إيديولوجية معلنة ــ تقدم تاريخ «مدينة داود» بأسلوب منحاز .
كل هذا ما كان له أن يحدث بدون دعم الدولة الإسرائيلية. يقول لى أحد النشطاء الإسرائيليين: «لو سألت الحكومة الإسرائيلية عما يحدث فى سلوان سيكون الرد هو أن هذا موضوع لا علاقة له بالحكومة، وأن من يشترون هذه الأماكن وينتقلون للسكن بها أفراد عاديون يتصرفون فى حدود القانون، ولكن فى مستعمرة نوف صهيون فى القدس الشرقية تصرح الحكومة للمستوطنين بالبناء على ١٢٥% من الأرض بينما قوانين البناء فى المنطقة تشترط ألا تتجاوز نسبة المبانى ٣٧.٥% من الأرض، فى راس العمود فوق سلوان يبنون عمارات بارتفاع خمسة أدوار للمستوطنين بينما يرفضون التصريح للعائلات الفلسطينية بإضافة دور ثالث لبيوتهم. اشترت إحدى منظمات المستوطنين مبنى قسم البوليس من الحكومة. تم تحويل خط أوتوبيس فى معالى زيتيم ليخدم إحدى المستعمرات. فى سلوان تدير منظمة مدينة داود الحديقة القومية نيابة عن الدولة، وتحدد لعلماء الآثار أماكن التنقيب وما المطلوب البحث عنه.
كل هذا يجعل المرء يتساءل عن العلاقة بين دولة إسرائيل ومنظمة مدينة داود: أيهما الكلب وأيهما ذيله؟ أو ربما يمكننا القول ببساطة إن مصالحهما متطابقة».
فى دراسة مهمة أجرتها منظمة عر عميم (مدينة الأمم) الإسرائيلية بعنوان «صفقات مشبوهة فى سلوان» يصل ميرون رابابورت إلى ذات النتيجة: «رسميا إيلاد منظمة غير حكومية، ولكن دورها هو دور جهاز تنفيذى للحكومة الإسرائيلية وتحظى بدعم شامل منها». وفى تصريح دال يقول دورون سبيلمان، مدير التنمية فى إيلاد: «... نحن نكاد نكون فرعا من الحكومة الإسرائيلية، ولكن دون أن تغرقنا البيروقراطية الحكومية».
المشروع الأساسى للحكومة الآن يتعلق بالقدس، واليوم ــ يوم ١٢مايو، يوم القدس ــ يظهر هذا جليا فى كل من القدس وسلوان. سلوان اليوم فى حالة طوارئ منذ الصباح. البوليس يحاصرها. مجموعة المراقبة المحلية يسجلون بهدوء تحركات أمن المستوطنات ومركبات الجيش والبوليس. فى المقهى الواقع أسفل الوادى ينشغل ثلاثة شبان بتنظيف الموائد، يرصون الكراسى ويعيدون ملء الثلاجة بينما يراقبون فرد الأمن الإسرائيلى صغير السن المتوتر الذى يحمل سلاحا ويقوم بورديته أمامهم.
«هؤلاء أفراد أمن خاص للمستوطنين، فهم لا يذهبون إلى أى مكان من غيرهم، إنهم يكلفون نحو خمسين مليون شيكل فى السنة تدفعها الحكومة من أموال الضرائب».
«والبوليس يحمى أفراد الأمن بينما الجيش دائما فى الجوار، فهل تتخيلين كم يكلف كل هذا»
بالأمس، عشية احتفالات يوم القدس، صرح بنيامين نتنياهو «القدس مدينتنا لم نتنازل عنها أبدا، لا حين هدم الهيكل الأول ولا حين هدم الهيكل الثانى... لا توجد أمة أخرى لديها مثل هذه المشاعر العميقة نحو مدينة من المدن.
والآن، فى عصر هذا اليوم الربيعى اللطيف، أقف فى خيمة التضامن فى حى البستان مع رجلين بيتيهما ضمن البيوت الثمانية والثمانين المهددة بالإزالة، فالدولة تريد إقامة حديقة أثرية «تستوحى روح الهيكل الثانى».
يوزعون أوراقا تقول «حيث إن الملك داود كان يتمشى فى هذا المكان فيجب أن يكون المكان مجرد حديقة ولا يليق أن توجد به بيوتنا. لاحظى أنه بالنسبة لهم «الملك داود»، أما بالنسبة لنا فهو «النبى داود»، فمن يجله أكثر»؟
«أيضا لا يوجد أى دليل على انه كان يتمشى هنا».
«وإن كان تمشى هنا، كان المكان وقتها خلاء، لم يشرد ألفا وخمسمائة بنى آدم حتى يتمشى ــ تعرفين: طالما لـُمنا آباءنا وأجدادنا أنهم تركوا الأرض والديار. يقولون ظنوا أنهم يعودون خلال أسابيع. فليكن. أما نحن فليس لنا عذر، لن نرحل، وكذلك لن يغسل أولادى الصحون فى منتزههم القومى».
فى سلوان والقدس تتوحد الإيديولوجيا اليمينية للمستوطنين مع السياسة الحكومية ومع رءوس المال الكبيرة ومصالح تجار الأراضى والمقاولين والذوق الردىء فتنتج مشهدا فريدا من السوقية والكابوس.
تحت غطاء التنقيب عن الآثار فى وادى حلوة يتم وضع أساسات مركز تجارى على مساحة مائة وخمسة عشر ألف متر مربع بدون تخطيط من المدينة وبدون تصاريح بناء، ويتوقف العمل فقط حين يصطدم بأساسات المنازل الفلسطينية
«تبدأ الشوارع فى الهبوط، هل ترين هذا الجزء الغامق من الأسفلت؟ اضطررنا إلى إعادة رصف الطريق. والمدرسة ــ مدرسة وكالة غوث اللاجئين ــ انهارت أرضية أحد الفصول، وسقطت أربع عشرة تلميذة فى أحد الأنفاق التى حفروها تحت المدرسة، واضطررنا إلى إخفاء الأمر حتى لا يغلقوا المدرسة بدعوى أنها غير آمنة»
لا يزال الحاجز العسكرى الإسرائيلى يغلق الشارع الرئيسى فى سلوان.
بالأمس رأيت فى القدس آلاف الشباب، طلاب المستوطنات، استجلبوهم فى باصات من أنحاء البلاد، يلبسون الأعلام الاسرائيلية على أكتافهم ويجوبون الشوارع، ويتقافزون ويطبلون وينشدون: لنا، لنا، القدس لنا. بينهم شابات يحملن أطفالهن الرضع، ويحرسهم رجال الشرطة العسكرية بأسلحتهم وستراتهم الواقية من الرصاص. البلدة القديمة مغلقة فى وجه الجميع عدا هم، حافلات المستوطنين والسياح هى فقط المسموح لها بالمرور على كل الطرق من وإلى القدس، أينما تنظر تجدهم، والمزيد والمزيد منهم يأتون، خيالة الشرطة يحيطون بهم بينما الأعلام الإسرائيلية ترفرف فوقهم، الأمهات التى تحاولن العودة إلى المنزل مع أطفالهن لا يسمح لهن بالمرور من بوابات المدينة، رجال يحملون حقائب المكتب يجلسون على الأرصفة، مزيد من العسكر يراقبون كل شىء من فوق أسوار البلدة القديمة، من وقت لآخر يأتى إلينا رجل بوليس: هل تتكلمون العبرية؟ لا. هل تتكلمون الإنجليزية؟ نعم. تراجعوا! إلى الوراء! تراجعوا! يقول أحد الواقفين بجانبنا: أظنهم يريدون منا أن نتراجع حتى إسبانيا! ثم يسألنى من وين؟ من مصر. القاهرة؟ نعم القاهرة. الله يسامح القاهرة.
يهبط الظلام
أهل سلوان يطعمون أطفالهم، يتزاورون، يشاهدون الأخبار، ويراقبون الطريق المؤدى إلى بلدتهم، فمن يعلم ما الذى يأتى منه فى أى لحظة. فى المقهى أسفل التل الشباب مهذبون مرحبون، لكنهم صامتون، يقدمون طعاما شهيا، يتابعون الماتش النهائى لكأس أوروبا على شاشة التليفزيون، لكنهم منتبهون تماما لما يحدث حول بلدتهم. على كتف الجبل فوقهم خشبة المسرح الذى أقامته إيلاد، لا يمكننا رؤيته لكننا نرى رايات «أسد صهيون»، ونرى الضوء الأزرق المنبعث من المسرح يلون سفح التل، ونسمع عبر الميكروفونات الأصوات التى تحتفل بثلاثة إسرائيليين حصل كل منهم على خمسين ألف دولار جائزة «أسد صهيون» التى أنشأها الملياردير الأمريكى موسكوفيتش لأعمال قاموا بها «لمواجهة التحديات التى تواجه إسرائيل فى مجالات التعليم والبحث العلمى والاستيطان والثقافة وغيرها...».
يقام هذا الاحتفال الذى وصفه ريتشارد سيلفرستاين من منظمة تيكون أولام بأنه «محاولة لإضفاء الاحترام على مفهوم قتل العرب وسرقة أراضيهم» بمباركة الدولة الإسرائيلية، فالجيش والبوليس يحمى الحفل ويتحدث فيه الوزير موشى يعالون و اللواء أفيجدور كاهالانى.
من المسجد الأقصى الشريف يأتى صوت الأذان، ثم سورة الرحمن: «فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»
أنوار البيوت الفلسطينية ترصع التل، والأشجار حول المقهى حيث أجلس مزينة هى الأخرى بالأنوار، وعلى بعد عشرين مترا تزوم حافلة جنود إسرائيلية فى وضع استعداد وكشافاتها تضىء وتنطفئ.
يشعر الفلسطينيون أن إسرائيل قد انتقلت من مرحلة الاحتلال إلى مرحلة الإحلال، وأن العمل على جعل حياة الفلسطينيين فى فلسطين مستحيلة هو مقدمة لتغيير وجه فلسطين نفسها. هذا هو ما ستحققه الأموال القادمة من الغرب. كى ترى مستقبل القدس كما يخطط له، يكفى أن تزور الحى اليهودى الجديد اللامع، وتدخل متجر الهيكل، وتشترى فوط سفرة ومطبخا ولعبا كلها مرسوم عليها الهيكل الثالث وهو يبزغ من الحرم الشريف ليحل محل قبة الصخرة. فى هذا المستقبل الذى نتحرك تجاهه لن يكون بالإمكان أن ننظر حولنا فنتأمل فى الاستمرار أو الخلود أو الروح وماهى، فسوف يحل محل الأحجار والديار والأبنية القديمة التى صقلها الزمن كل ما هو جديد وحاد ومزيف، وبدلا من طرق الوادى حيث يلعب الأطفال بحرية سيصبح لدينا التلفريك ومطاعم الوجبات السريعة ودائما دائما البوابات الحديدية وحواجز الأمن وأكشاك بيع التذاكر وتسويق السلع، وستحل حكاية واحدة مكان آلاف الحكايات التى نسجها الزمن بعضها تحت وفوق وحول بعضها البعض، وهذه الحكاية لن تكون الحكاية اليهودية لأن الحكاية اليهودية فى القدس لا تنفصل عن الحكاية البيزنطية والعربية، المسيحية والمسلمة: ستكون حكاية مزورة مثلها مثل الشارة الميزوزا المزيفة التى ينحتها المستوطنون فى أبواب البيوت العربية بعد أن يستولوا عليها.
نعم، قريبا إن لم يستفق العالم، سيكون الصوت الوحيد الصادر عن القدس هو صوت رنين العملة فى خزانات الأثرياء.
حقوق النشر لأهداف سويف مايو ٢٠١٠
نشر هذا المقال فى جريدة الغارديان البريطانية
أتوجه بالشكر إلى النشطاء الفلسطينيين وإلى أهل سلوان أهل البلدة القديمة فى القدس وإلى «إ و ى» من اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل، والى منظمة دانيال سيدلمان عير عميم (مدينة الأمم).