كان من اللافت للنظر تلك الحميمية الزائدة التى أبداها نتنياهو تجاه الرئيس الفلسطينى عباس عندما التقيا فى واشنطن فى الأول والثانى من سبتمبر الحالى. هذا على الجانب المظهرى، أما على الجانب الموضوعى فقد لُوحظ أيضا أن نتنياهو قد نادى عباس «بالشريك فى عملية السلام». أضف إلى هذا أن نتنياهو أسقط تعبير يهودا والسامرة عندما تحدث عن الضفة الغربية، حتى إن بعض المعلقين الإسرائيليين تساءل عما إذا كان رئيس وزراء إسرائيل قد تخلى عن حلم إسرائيل الكبرى فى أرض الميعاد. أيضا لم يتخذ نتنياهو من مقتل أربعة من المستوطنين غداة الاجتماعات ذريعة لكى يحزم أمتعته ويرحل. هذا بالنسبة لقمة واشنطن، أما قمة شرم الشيخ يوم 14 سبتمبر فقد استبقها نتنياهو بالتلميح إلى إمكانية «إبطاء» معدل النشاط الاستيطانى بعد انتهاء فترة التجميد فى 26 سبتمبر الحالى.
ويبقى التساؤل عما إذا كان ما سلف يمثل تغييرا أو بداية لتغيير فى موقف نتنياهو أم جاء فى إطار حملة علاقات عامة يدغدغ بها عواطف الأمريكيين والفلسطينيين على حد سواء. فإذا نحن افترضنا جدلا أننا على وشك أن نشهد تطورا فى موقف نتنياهو، فيا ترى ما هى دوافعه لذلك؟ لا يتصور أحد أن رئيس الوزراء الإسرائيلى قد انقشعت الغشاوة عن عينيه بين يوم وليلة فرأى السلام خيارا جذبا وفرصة لا تعوض.
فى تصورى أن مثل هذا التطور إذا ثبتت صحته يعود إلى أن أوباما قد استخدم مع نتنياهو على امتداد عام ونصف العام ما يحلو للأمريكيين وصفه «بالعصا والجزرة» (بالمناسبة هى عصا ليست بغليظة فى جميع الأحوال). أما العصا فقد ظهرت من خلال اللقاءات السابقة التى تمت بعيدة عن الأنظار وذلك قبل اجتماع 6 يوليو الماضى، والمعاملة الجافة التى لقيها نتنياهو من مضيفه الأمريكى.
ولا يحتاج الأمر إلى خيال واسع لتبين أن الرئيس الأمريكى قد أوضح لضيفه فى كل مرة التقى به أن مصالح أمريكا وأمنها القومى فى خطر إذا لم يتم التوصل إلى سلام فى منطقة الشرق الأوسط. بل إن أوباما أعلن فى آخر مؤتمر صحفى له يوم 10 سبتمبر الحالى أن بقاء الوضع الحالى فى المنطقة إنما يعرض الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى وكذلك الولايات المتحدة ذاتها إلى المخاطر، مؤكدا أن السلام فى المنطقة إنما هو فى صالح الأمن القومى الأمريكى. ولعل ما ذكرته صحيفة معاريف الإسرائيلية يوم 3 سبتمبر الحالى ما يكشف عن أسلوب الإدارة الأمريكية فى التعامل مع نتنياهو. تقول الصحيفة ما نصه «طلبت وزيرة الخارجية الأمريكية من نتنياهو قبل الاجتماع الأول للرؤساء فى واشنطن يوم 1 سبتمبر تمديد تجميد عملية البناء فى المستوطنات حتى نهاية السنة الميلادية. وقال المسئولون الأمريكيون لرئيس وزراء إسرائيل بكل صراحة أن ادعاءه بأن الثمن السياسى الذى سيدفعه لقاء الاستمرار فى تجميد البناء سيكون كبيرا جدا وغير مقبول بالنسبة إليهم، وقالوا له إنه ليس فى استطاعتهم المحافظة على رصيده السياسى على حساب الرصيد السياسى لمحمود عباس.
وأوضح أوباما فى مؤتمره الصحفى الأخير يوم 10 سبتمبر أنه قال لنتنياهو: «طالما أن المفاوضات تسير فى اتجاه بنّاء فإن تمديد التجميد هو السبيل العقلانى المتاح». وربما كانت هيلارى كلينتون أكثر صراحة عندما أكدت وهى فى طريقها لشرم الشيخ أن الولايات المتحدة ترى ضرورة تمديد فترة تجميد المستوطنات. وقبل ذلك حرصت على القول أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية يوم 8 الحالى بأن «إسرائيل إنما تتعرض لأخطار عدة، ديمغرافية وتكنولوجية وأيديولوجية، وأن التوصل إلى سلام مع السلطة الفلسطينية هو السبيل الصحيح مضيفة أن مبادرة السلام العربية لعام 2002 أكدت أن 57 دولة عربية وإسلامية قد التزمت رسميا بحل الدولتين، وأن مثل هذا الالتزام قد أوجد جوا مغايرا تماما عما سبقه». وزيرة الخارجية الأمريكية إذن تترافع لصالح المبادرة العربية وهو أمر محمود لا يمكن إنكاره.
أما استخدام الجزرة فمظاهره عديدة بدءا بصفقات السلاح الأمريكى الأكثر تقدما فى العالم، خاصة الطائرات المقاتلة والقاذفة، والتأكيد على الحفاظ على التفوق النوعى الإسرائيلى من السلاح على كل الدول العربية مجتمعة، وحماية خيارها النووى بالتعهد بعدم إجبارها على القيام بما لا ترضاه، وهو فى هذه الحالة عدم الإصرار على حضورها مؤتمر إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل عام 2012.
إلى جانب الضغوط الأمريكية (إذا جاز لنا أن نعتبرها ضغوطا بالفعل)، تتعرض إسرائيل لضغوط داخلية وخارجية ربما لم تشهدها من قبل. بالنسبة للداخل لابد من الإشارة هنا إلى واقعة أخيرة تمثلت فى رفض العشرات من المسرحيين ممارسة أية أنشطة فى المركز الثقافى الجديد الذى أقيم فى مستعمرة أريل بالضفة الغربية المحتلة. على إثر ذلك قامت مجموعة من المؤلفين والفنانين الإسرائيليين بإصدار بيان تأييد لهؤلاء المسرحيين. ثم قام 150 أستاذا ومحاضرا فى الجامعات الإسرائيلية بالإعلان عن رفضهم التدريس فى المعهد المقام فى المستعمرة المذكورة وأعلنوا مقاطعتهم الكاملة لأية أنشطة ثقافية فى الأراضى المحتلة!
وخارجيا فإن حملة المقاطعة قائمة على قدم وساق. سحبتا حكومتا النرويج والسويد استثماراتهما فى الشركات الإسرائيلية التى تمارس أنشطة فى المستعمرات القائمة فى الأراضى المحتلة. وفى شيلى قرر برلمانها مؤخرا مقاطعة البضائع التى يتم إنتاجها فى المستوطنات الإسرائيلية.
وعلى خلفية عدوان إسرائيل على غزة فى نهاية عام 2008 وافتضاح جرائمها التى سجلها تقرير جولدستون وكذلك مهاجمة إسرائيل لأسطول الحرية وقتل عشرة من الناشطين الأتراك الذين كانوا على ظهر سفينة القيادة، بالإضافة إلى تأزم علاقات إسرائيل بخمس دول صديقة نتيجة استخدام أو تزوير جوازات سفرها فى عملية اغتيال المبحوح فى دبى، وأخيرا رفضت إسرائيل استقبال وزراء خارجية خمس دول أوروبية هى بريطانيا وفرنسا وايطاليا وإسبانيا وألمانيا بذرائع غير مقنعة، كل ذلك دفع هاآرتس الإسرائيلية إلى التحذير فى مقال افتتاحى يوم 8 سبتمبر الحالى من تآكل مكانة إسرائيل الدولية بشكل يدعو إلى القلق. ودعت الصحيفة الحكومية الإسرائيلية إلى التخلى عن أى محاولة للإبقاء على الوضع الحالى الذى يُحكم حلقاته حول عنق إسرائيل ويهدد مستقبلها.
سيقاوم نتنياهو هذه الضغوط متى تعلق الأمر بالمواقف الإسرائيلية المعروفة تجاه قضايا الوضع النهائى. لا شك أنه سيتمسك بضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى إسرائيل التى وعده بها بوش عام 2004، والاعتراف بيهودية الدولة، وأن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تقتصر عودة اللاجئين على أراضى الدولة الفلسطينية، بالإضافة إلى الدعوات المعروفة المتعلقة بالقدس.
لا بديل إذن عن وجود دعم عربى متواصل وقوى للموقف الفلسطينى أثناء عملية التفاوض، وحث الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى (الذى تسعى إسرائيل حاليا لاستئناف مفاوضاتها الرامية إلى رفع مستوى علاقاتها معه التى توقفت مع توقف عملية السلام) وروسيا الاتحادية على ممارسة كل الضغوط الممكنة على إسرائيل. لا يمكن تصور أن الدول العربية، بكل ما حباها الله من ثروات طبيعية من بترول وغاز يمثلان فى الواقع شرايين الحياة إلى الولايات المتحدة ولأوروبا واليابان وغيرها، ومن أرصدة مالية ضخمة فى المصارف الخارجية أو يتم ضخها فى مشروعات استثمارية فيها، أو تلك التجارة الرائجة والمكاسب الطائلة لهذه الدول فى تعاملاتها مع الدول العربية عن طريق صفقات السلاح بمليارات الدولارات (آخر صفقة سلاح للسعودية بما يزيد عن 60 مليار دولار)، لا يمكن تصور أن تبقى هذه الدول عاجزة عن ممارسة التأثير المطلوب على هذه الدول الأجنبية كى تمارس بدورها ضغوطها على إسرائيل.
تقوم العلاقات الدولية على مبدأ المنفعة المشتركة أو المتبادلة، فما بالك إذا كانت هذه المنفعة المشتركة تتمثل فى الواقع فى منفعة الجميع فى تحقيق السلام والأمن فى أكثر المناطق حيوية وحساسية وهى منطقة الشرق الأوسط.