أطفال الشوارع.. محل الميلاد: منطقة عشوائية - وائل زكى - بوابة الشروق
الأربعاء 18 ديسمبر 2024 11:49 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أطفال الشوارع.. محل الميلاد: منطقة عشوائية

نشر فى : الثلاثاء 18 سبتمبر 2012 - 8:10 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 18 سبتمبر 2012 - 8:10 ص

كثيرا ما يتم التعامل مع الظاهرة  على أنها المشكلة مما يحد من نجاح  الحلول فى إزالة أسبابها، فقد اشتكى من ضعف الإبصار فيكتشف الطبيب أن مرضا سبب ذلك، فيتحول ضعف الإبصار من مشكلة إلى ظاهرة تنم عن مرض آخر ومشكلة أخرى. وهكذا بتحرى الفحص والتحليل والتشخيص السليم ننتقل من مستوى رصد ظاهرة إلى مشكلة هى السبب فيها.

 

وكثيرا ما نشتكى من زحام السيارات فى أحد الشوارع، ثم نكتشف أن السبب الوقوف الخاطئ لسيارات نقل الركاب فى نهر الطريق، فتنتقل مشكلة الزحام من مشكلة سعة طريق إلى مشكلتى ضبط مرورى وسلوك سائقين، وبالبحث ستجد أن كلا من هاتين المشكلتين قد تكون مظهرا لمشاكل وشكاوى مهنية لدى رجال المرور ولدى السائقين، وهكذا حتى نضع يدنا على أصل المظهر والمشكلة الحقيقية لعلاجها مهما تعددت الأسباب. والظاهرة مظهر متكرر سواء موسميا كالسحابة السوداء أو مكانيا كالتكدس المرورى عند منازل الكبارى والجسور، أو مجتمعيا مثل تكدس الأطفال فى إشارة المرور طالبين منك أى شىء أو انقضاض أحدهم على سيارتك ماسحا أى جزء فيها ثم يتوجه إليك مباشرة لطلب المساعدة، وأصبح مظهرا متكررا ويشكل ظاهرة تتعدد أسبابها ويكثر حولها الجدل.

 

ويتم مواجهتها بجهود حثيثة فى مظاهرها، فجمع هؤلاء الأطفال ومحاولات تسكينهم وإيوائهم بقدر ما يحل جزءا من المشكلة إلا أنه يوارى المظهر دون لمس جوهر المشكلة والسبب وراء الظاهرة، فتقديم المساعدات لأطفال الشوارع ولو كانت منتظمة دون علاج أسبابها فى مكامنها هو بمثابة حل لمشكلتنا نحن مع هذا المظهر غير الحضارى الذى يبدو عليه الشارع المصرى.

 

●●●

فأين مكامن المشكلة؟.. عشرات السنوات مرت على مصر تجمع فى مسيرتها صنوفا من أبنائها متنوعى المستويات والتوجهات والدوافع منذ ستينيات القرن الماضى مع الاستقطاب الصناعى إلى استقبال المهجرين قسرا من مدن القنال إلى موجات الزحف من أرجاء مصر إلى القاهرة منذ منتصف السبعينيات وبدايات رصد قطاع اقتصادى هامشى لا رسمى، ثم موجات متتالية مع تحرير العلاقة الإيجارية فى الأطيان الزراعية خلال تسعينيات القرن الماضى والتى خلفت عشرات الآلاف من الفلاحين المضارين والمتوجهين إلى المدن الرئيسية طلبا للقمة العيش، مع استقبال الهجرة والعمالة المرتدة من بعض الدول العربية، كل ذلك كانت تحتضنه مسطحات عمران آخذة فى الامتداد حول المدن، أو متجمعة حول مواقع عمران قديمة انحصرت داخل المدينة ولم تنحسر فى امتدادها لتصبح مناطق إسكان عشوائى خلط فيها هذا الكم المتنوع فى دوافعه والمتفق فى هدفه نحو السعى لتحصيل الرزق وتحسين سبل المعيشة.

 

تحولت مناطق الإسكان العشوائى فى مستوياتها من مظاهر الإسكان المشوه فى المدن والقرى على حد سواء إلى مناطق عمرانية عشوائية تزيد بينها وبين المناطق المحيطة بها داخل المدينة الواحدة حدة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، ويزيد طحن المواطن فيها من جيل القادمين بالهجرة إلى جيل القادمين بالميلاد داخل هذه البيئة العمرانية والمستوى السكنى والاقتصادى المتردى، أسرا تعيش فى غرف وأكواخ وعشش وخيام وأحواش المدافن يقدر عددهم بنحو مليون ونصف أسرة (1.411.533 إحصاء 2006) فى حين يقدر الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى تقديراته عام 2007 لعدد سكان 870 عشوائية بنحو 12.2 مليون نسمة، بعد أن كان عدد العشوائيات من ذات المصدر 1221 منطقة عام 1991، فيما يشير إلى إنهاء عشوائية 351 منطقة، فى حين تتعدد المفاهيم والمعايير حول تحديد المناطق العشوائية وتوصيفها.

 

وفى هذا الخضم من العمران العشوائى، تبدو ظاهرة أطفال الشوارع بكل مآسيها ومؤشراتها هى الإفراز الاجتماعى لتلك المجتمعات والبؤر العشوائية داخل المدن، هى نتاج ذلك الخلط العشوائى فى العلاقات الاجتماعية، تلك الغرف والمساكن التى تضيق بساكنيها الذين قد يتجمع منهم الأسرة الممتدة لجيلين داخل غرفة واحدة، فينطلق منها الطفل برغبة مشتركة مع ذويه دون حاجة لاتفاق إلى رحاب الشارع وانفتاح بيئة التعامل ليصبح الشارع أحد مكملات احتياجاته، فقد يتناول وجبة بعد دورة فى إشارات المرور، وقد يحقق امتلاك هاتف محمول بتثبيت مواطن، وتنم الظاهرة عن مشكلة أخرى عندما تكتشف أن ما يمارسه طفل الشارع معك يعتبره وسيلة مشروعة بل وطبيعة بديهية ــ أمال آكل منين إذا ماكنتش هتساعدنى!، تقوم تخطف منى؟، أعملك إيه مانتا مش عايز تساعدنى ــ قد لا يعتبرها أهله كذلك ويحدثونك فى أسبابهم المادية، هنا يتضح الاختلاف فى منطق الأمور بين الجيلين، وها نحن نترك هذا الجيل الطفولى يكبر على ذلك الفهم البدهى لديهم من استحقاقهم لما فى يدك لمجرد أنك قادر على جلب غيره لنفسك وهو غير قادر سوى على تثبيتك.

 

●●●

 

أطفال الشوارع منهم المشرد الذى ليس له مسكن عائلى يعود إليه، ومنهم ما أطلق عليه الجوال، الذين يعود إلى مسكنه ليلا مع عائلته، وغالبا تربط الأخير بأهله علاقات مهترئة ما بين تسلط مادى لرب الأسرة إلى تعلق الطفل بأحد أفرادها، ويحمل المشرد صفات نفسية وسلوكية مختلفة تماما عن صفات الجوال، وفى ذلك إشارة إلى طبيعة ارتباطهم بالمنطقة العشوائية، فمع كونها مجتمعهم الذى يضمهم ومقر عملهم الذى ينطلقون منه إلى أرجاء أخرى، فالأول يتخذ منها مجرد مأوى والثانى يتخذ منها محل إقامة وارتباط اجتماعى.

 

اللافت للنظر طفل الشارع منذ عشرة أعوام، أصبح الآن شاب الشارع الذى نشأ على نفسية خاصة نتركه نهبا لها، وغدا سيكون رجل الشارع، يمارس منطقه وبداهته فى تناول الأمور، ونتساءل عن مصدر البلطجة وطبيعة البلطجى، ونستغرب ذلك التحول فى منطق تناول الأمور لديهم، ومن جهة أخرى مسلطين الضوء على طفل الشارع فى فئته العمرية كأنه يشفى من تلقاء نفسه عند تخطيه السادسة عشرة.

 

علاج الظاهرة مسكنات تظل معها الأسباب قائمة، وعلاج الأسباب بمواجهة مشاكلها داخل مكامنها بالمناطق العشوائية، انقذوا أطفال الشوارع فى مآويهم وعالجوا شباب الشوارع فى مكامنهم وساعدوا قاطنى المناطق العشوائية، هناك منطق مختلف وطبيعة مغايرة، فقط ضع فى اعتبارك أن معظم أطفال الشوارع العفويين فى تصرفاتهم التى قد تنفرك منهم، هم ضحايا عدم حل مشاكلهم من جذورها فى مناطقهم العشوائية، هؤلاء أصحاب اليد الممدودة إليك بطلب المساعدة قد تصبح ضحيتهم غدا إن لم نتعاون فى انتشالهم مما يواجهونه من حياة أبعد ما تكون عن كرامة الإنسان وعدالة المجتمع.

 

وائل زكى استشاري التخطيط العمراني وعضو مقيم عقاري بلجان طعون الضرائب العقارية، ويعمل كأستاذ للتخطيط العمراني وتاريخ ونظريات تخطيط المدن ومدرب معتمد إدارة المشروعات
التعليقات