أخلى المستشار محمد مصطفى الفقى سبيل حمادة نوبى، ووائل متولى، وعلاء عبدالفتاح، فصاروا ــ كبقية زملائهم الاثنين وعشرين المتهمين فى «قضية مجلس الشورى» ــ يخضعون لإجراءات المحاكمة وهم خارج السجون. الكل يعرف ملابسات القضية، ويعرف أن حبسهم كان ظلما أصلا، فشروط الحبس الاحتياطى لا تتوفر فى هذه القضية ــ ومع ذلك فقد قضى علاء 115 يوما فى السجن (قضى مثلهم أحمد عبدالرحمن)، ثم 96 يوما آخرين (قضى مثلهم حمادة نوبى ووائل متولى).
ثلاثمائة وسبعة أيام محبوس بدون وجه حق، على ذمة قضية جزء منها مبنى على قانون غير دستورى معيوب، والجزء الثانى على اتهام مشكوك فيه تماما ومشابه لاتهامات أخرى سبق أن برأته المحاكم منها. ولا يفوتنا أن إخلاء السبيل ــ فى المرتين ــ معناه انتفاء سبب الحبس الاحتياطى أصلا. فمن نحاسب على أيام ابننا الـ211 التى أكلتهم الدولة بدون وجه حق؟
بالتأكيد إننا ــ كأسرة ــ مرتاحين لإخلاء سبيل علاء ووجوده بيننا. لا أقول «فرحين»، لأن معوقات الفرحة كثيرة: غياب أحمد سيف وظروف رحيله تثقل قلوبنا، وبقاء سناء وزملائها فى السجن قضيتهم مؤجلة شهرا وهى مضربة عن الطعام، وإضراب ليلى ومنى عن الطعام ــ ويحوط كل هذا ويلقى بالظلال السوداء فى قلوبنا وجود آلاف المحبوسين ظلما فى هذه اللحظة، منهم أعداد تتزايد تنضم لحملة «جبنا آخرنا»، فقد وجدت فى الإضراب عن الطعام أداتها الأخيرة لتفعيل إرادتها ولفت الانتباه للظلم الواقع عليها. ومنهم من نقلق عليه جدا لتدهور حالته الصحية.
المواطنون المصرين المحبوسون لا زالوا يعتقدون أن هناك منطق وسبب لحبسهم، وهم يبحثون عنه، والبحث يحيرهم. والبحث يحيرنا أيضا. لماذا يحبس محمود محمد؟ ١٨ سنة، اعتقل في ٢٥ يناير ٢٠١٤، محبوس احتياطي منذ ٢٣٥ يوم، كان عنده جلسة الثلاثاء وأجلت إلى ٢٠ سبتمبر. لماذا يحبس شوكان؟ الفوتوغرافي المبدع الذي يصدق على أعماله وصف "صورة خير من ألف كلمة". لماذا يحبس أحمد أيمن؟ المحبوس الآن ٤٤٠ (أربعمائة وأربعين) يوم بدون محاكمة، والذي بدأ إضرابا عن الطعام في ٧ سبتمبر. لماذا يحبس أحمد مصطفى؟ أو أحمد جمال زيادة (المضرب أيضا عن الطعام والذي يلقى التهديدات في السجن لفض إضرابه)؟ لماذا يحكم على ياسين صبري بالسجن ٤ سنوات وهو الطالب الذي كان في طريقه لامتحان كيمياء ووجدوا معه رواية لنجيب محفوظ وستيكر "جبهة طريق الثورة"؟ والقاضي دخل نطق بالحكم بدون مرافعة وياسين وصل معهد الامناء بعد النطق بالحكم وبعد مالقاضي مشي، حتي جلسة الحكم عليه محضرهاش!
أصيب إصابات عدة صغيرة وكبيرة بعضها ترك آثارًا أبدية، وتركت له السجون إرثا كبيرا من التلف بالجهاز الهضمى والأعصاب. لم يسرق ولم ينهب ولم يستغل نفوذا ولم يقتل أو يعذب ولم يرفع سلاحا فى وجه الوطن فكان كل نضاله من أجله لا عليه، فماذا فعل ليحبس اليوم لأكثر من 10 أشهر؟!».
وهذا السؤال يسأله آلاف السجناء. سبق أن نشرت خطابا بنفس المعنى للمهندس باسم متولى، وها هى مقتطفات من نص وصلنى مؤخرا من شاب سجين، عنده 19 سنة، يقول:
«حلمت منذ سن الخامسة بدخول كلية الهندسة بمجموع يفوق الـ99٪، وبدخول منتخب كرة السلة والحصول على درجات التفوق الرياضى؛ لأدخل الجامعة راضيا عن جانبىّ حياتى الدنيوية الأساسيَّين، الدراسة والرياضة. ومضيت من يومها فى تحقيق هذا الحلم حتى وصلت له بفضل الله بعد كدّ وتعب، حتى لم يبقَ سوى ليلة وأبدأ فى أن أعيش حلمى. (احتجز الأمن هذا الشاب ووالده من سيارة الأسرة التى كانت تمر من ميدان رمسيس منذ عام، والأب والابن محبوسين من وقتها). ماذا فعلت كى أحبس سنة كاملة؟ لم استحققت أن تضيع سنة من حلمى؟ لم فقدت أى مستقبل رياضىّ كان ممكنا لى؟ هل لأنى تجرأت وحلمت بأن أكون ناجحا؟ أم لأنى طمعت فى تغيير بلدى للأفضل؟ أم لأننى ارتكبت جريمة أن حاولت أن أكون شخصا مختلفا عما تفرضه علىّ توقعات وتقاليد بلدى العقيمة؟ أو لأنى بكل وقاحة مددت بصرى أبعد من الحد المسموح به فى هذا المكان؟، وما الهدف؟ هل هو إحباطى؟ هل هو كسر عزيمتى ومحو طموحى وبرمجتى لأن أكون تقليديا مريحا لهم مطيعا لأمرهم؟ هل أرادوا علاجى من مرض الحلم الذى يُطَعِّمون الأطفال أمصال إحباط ليَقُوهم منه فى هذا البلد؟ لأنه إن كان هذا هدفهم فقد فشلوا فشلا ذريعا مدويا، فلم يزدنى هذا المكان غير عزيمة وقوة وصقل وعلم وأمل ... سنة ... حاولت فيها بشتَّى الوسائل أن أوصل صوتى لشخص عاقل، يعرف أنى مظلوم وأبى، وأنه لا مكسب لهم على الإطلاق من حبسنا، وكلها ذهبت سدى، ولم تثمر عن أى نتيجة ... سنة ... وما أريده هو الكلام مع طرف محايد يفهم، وأحكى له قصتى ببساطة، وإذا اقتنع أنى مذنب فلا أمانع أن أبقى هنا، فقط أريد أن أفهم ما جرمى، حتى أستريح وأنا أُكَفِّر عنه.
المواطنون المصريون المحبوسون لا يزالون يعتقدون أن هناك منطقا وسببا لحبسهم، وهم يبحثون عنه، والبحث يحيرهم. والبحث يحيرنا أيضا.
لماذا يحبس محمود محمد؟ 18 سنة، اعتقل في 25 يناير 2014، محبوس احتياطي منذ 235يوما، كان عنده جلسة الثلاثاء، وأجلت إلى 20 سبتمبر.
لماذا يحبس شوكان؟ الفوتوغرافي المبدع الذي يصدق على أعماله وصف «صورة خير من ألف كلمة»، لماذا يحبس أحمد أيمن؟ المحبوس الآن 440 (أربعمائة وأربعين) يوما بدون محاكمة، والذي بدأ إضرابا عن الطعام في 7 سبتمبر، لماذا يحبس أحمد مصطفى؟ أو أحمد جمال زيادة (المضرب أيضا عن الطعام والذي يلقى التهديدات في السجن لفض إضرابه)؟ لماذا يحكم على ياسين صبري بالسجن 4 سنوات وهو الطالب الذي كان في طريقه لامتحان كيمياء ووجدوا معه رواية لنجيب محفوظ وستيكر «جبهة طريق الثورة»؟ والقاضي دخل نطق بالحكم بدون مرافعة، وياسين وصل معهد الأمناء بعد النطق بالحكم، وبعد ما القاضي مشي، حتى جلسة الحكم عليه محضرهاش!
طيب ممكن حد يقول لنا فين عمر عبدالمقصود؟ يوم 12 سبتمبر عمر عبدالمقصود، وإبراهيم وأنس عبدالمقصود، وإبراهيم متولى أخدوا حكم إخلاء سبيل نهائى، وتقول الأسرة إن مأمور قسم ميت غمر ورئيس المباحث أعربا عن غضبهما لهذا. ويوم ١٤ سبتمبر، وبعد أن دفعت أسرهم الكفالات المطلوبة، لم يُخل سبيل الرجال بل اختفوا من القسم. الأسرة أرسلت برقيات للنائب العام فى القاهرة والمحامى العام فى المنصورة، نصها: «قررت محكمة جنايات المنصورة بتاريخ 11 سبتمبر 2014 اخلاء سبيل عمر وإبراهيم وأنس على حسن عبدالمقصود وعبدالمنعم متولى عبدالمنعم مصطفى، فى القضية رقم 2989 لسنة 2014 جنح قسم ميت غمر، بضمان مالى.
وتم سداده فتم اخلاء سبيلهم ورقيا وتسليمهم لجهة امنية اخرى دون سند قانونى، بما يشكل جريمة اخفاء قسرى. أرجو اتخاذ اللازم وتسليم المتهمين المذكورين لذويهم». وهذا لم يحدث حتى وقت كتابة هذه السطور. وقد تقدم الأستاذ عمرو القاضى، محامى المتهمين المفرج عنهم، لنيابة استئناف المنصورة، ونيابة جنوب المنصورة الكلية، ضد رئيس قطاع الأمن الوطنى بالمنصورة ومأمور قسم ميت غمر، لارتكابهم جريمة الإخفاء القسرى واحتجاز مواطنين بدون وجه حق، والبلاغ مقيد برقم 2150 لسنة 2014 عرائض استئناف المنصورة، وطلب تحقيق البلاغ قضائيا وندب أحد أعضاء النيابة للانتقال لفرع قطاع الأمن الوطنى لضبط الجريمة وإصدار الأمر بالإفراج الفورى عن المعتقلين، وهذا وفقا لنص الفقرة الثانية من المادة 43 من قانون الإجراءات الجنائية. ولم تتخذ النيابة أى إجراء بعد.
أكتفى ــ وممكن أستمر وأملأ الجرنال كله قصص معتقلين وتساؤلاتهم، لكن أكتفى، وأرجع إلى علاء عبدالفتاح، وهو يعيد تساؤلات المواطنين المحبوسين فى صيغة تبين أن هذه التساؤلات ليست هما خاصا لكل سجين، لكنها هم عام علينا أن نتشارك جميعا فى مواجهته، وإيجاد الإجابات عليه، فهو يدعو الجميع: «أقترح عليكم الانشغال بسؤال: لماذا تتخذ كل تلك الاجراءات ضدنا؟ ما التهديد الذى نشكله ويستدعى كل هذا؟ ولماذا لا تكفى معنا الإجراءات القانونية الاعتيادية، رغم تحكم السلطة شبه المطلق فى التشريع؟ وكيف يمكن أن يحدث كل هذا فى دولة مؤسسات عريقة؟ ما الذى يدفع كل هذه المؤسسات والأفراد إلى المشاركة فى كل هذه الانتهاكات؟ ما المصلحة؟ ولم لا يشكل تعدد المؤسسات ولا تعدد الثورات ولا الدساتير عامل كبح كاف لمثل هذه الممارسات؟ أيمكننا إلزام الدولة باحترام قوانينها وقواعدها وإجراءاتها؟ أيمكن إصلاح المؤسسات والأفراد القائمين عليها بعد عقود من هذه الممارسات؟ وهل تزايدت وتيرة وكثافة العبث مؤخرا لدرجة تخرب فرص الإصلاح هذه؟ ما الثمن الذى سيدفعه المجتمع؟ بل ما الثمن الذى يدفعه المجتمع بالفعل نتاج تفشى انتهاك القواعد من قبل مؤسسات يفترض أن وظيفتها ضمان الالتزام بها؟ ما ثمن تجاهل كل هذا لدرجة ألا ترمش لأحد عين حين يؤكد أحد المسئولين أن ما يحدث «عادى» لأننا لسنا فى سويسرا؟!».
علاء أخلى سبيله، لكننا اكتشفنا، وهو ينهى إجراءات الإفراج يوم الاثنين، أن عليه حكما غيابيا آخر ــ صدر قبل حبسه بأسبوع ــ لم يُعلم به ولا بالجلسة التى صدر فيها! وأيضا علاء، مع زملائه، سيعود ليقف أمام دائرة جديدة، تحددها المحكمة، لإعادة إجراءات المحاكمة فى «قضية مجلس الشورى». والأسبوع الماضى وجه علاء خطابا إلى قاضيه، أجد فيه ما يفيد أن يوجه إلى عموم قضاة مصر، قال فيه: «هناك إرادة سياسية وراء حبسنا تتمثل فى صياغة قانون التظاهر المعيب وغير الدستورى، رغم الرفض المجتمعى الواسع، وقرار وضع قضايا التظاهر تحت اختصاص دوائر نظريًا مخصصة لقضايا الإرهاب، وطبعًا الإصرار على حبس وتلفيق قضايا لمئات من الشباب الذى لم يرفع سلاح فى وجه المجتمع ولا الدولة ولا قتل ولا فجر ولا خرب بنيىة تحتية.
وقد بدأنا بالفعل إضرابا عن الطعام تصاعدى وعابر للسجون وبتضامن من خارجها، بغرض الضغط على مركز ومصدر تلك الإرادة السياسية أيا كان، وأنا الآن فى أسبوعى الرابع من الإضراب. حل الملف ودرء الصدع بين الدولة والشباب ليس مهمتكم، فلا أنتم من تصدرون القوانين ولا أنتم من شكل الدوائر، ولكن حضراتكم تملكون حل أزمة تلك القضية وإخراجها من دائرة الصراعات والخصومة السياسية لتأخذ مسارها كقضية جنائية عادية».
كانت هذه نهاية خطاب علاء عبدالفتاح إلى المستشار محمد مصطفى الفقى، قبل أن يأخذ سيادته قراراته المحمودة بإخلاء سبيل المتهمين، والتحقيق فى حادث عرض الفيديو الخاص، والتنحى عن نظر القضية. فأُذَكِّر قضاتنا الأجلاء، بكل الاحترام، أن سيادة وزير الداخلية خرج علينا ليعلن أنه لا يعتقل أحدا وأن المحبوس محبوس بالقانون، وفى إطار هذا التصريح، وفى إطار حملة الإضرابات المتصاعدة وما تلاقيه من تجاوب واسع، وفى إطار الاحترام الدولى السابق الكبير لرجال القانون فى مصر، وهو الإرث الذى لا يجب أبدا التفريط فيه، أتوجه لكم بالرجاء: إن ضاعت الثقة فى القضاء والقانون ضاعت أهم مقومات التعايش السلمى فى المجتمع. لعل المسئولية الموضوعة عليكم اليوم هى الأكبر فى تاريخكم كله، فكونوا لها.