الأستاذ عبدالله هو من أفضل مدرسى العلوم فى الحى. يدرس لطلبة السنة النهائية فى المرحلة الإعدادية. لا يدخل بيته قبل منتصف الليل.
فهو يدور على بيوت الطلبة بعد ساعات عمله الرسمية. رغم وجهه العبوس، يحبه طلبته ويحبه أهل طلبته من المدرسة وخارجها. فهو من تلك العملات النادرة التى تظل تدرس ليل نهار بضمير وتفان
الدروس الخصوصية هى مصدر دخله الأساسى، لكى يستطيع أن يفتح بيته المتواضع فى حى عشوائى، ويعلم أولاده الثلاثة فى مدرسة تجريبية. ينظر إليه المسئولون عن التعليم على أنه مجرم آثم. وتنظر إليه منظمة العمل الدولية على أنه ضحية هؤلاء المسئولين.
كان الأستاذ عبدالله قد انخرط فى سلك التدريس منذ أكثر من عشر سنوات، عندما التحقت منى، خريجة الآداب قسم اللغة العربية بمهنة التدريس. تمسكت منى بمبدأ الامتناع عن إعطاء الدروس الخصوصية، واجتهدت فى الشرح أثناء الحصة، والعناية بعد ساعات العمل الرسمية بمن يحتاج من طلبتها لرعاية خاصة.
ابتسامة منى الملائكية فى وجه طلبتها لم تدم أكثر من عامين، تركت بعدهما التعليم، لتلتحق بوظيفة أخرى، تستطيع بها أن تؤمن حياتها وحياة أسرتها. وهنا أيضا تلوم منظمة العمل الدولية على الحكومة أن فرطت فى عنصر كفء مثل منى وكم من أفاضل مثلها تركوا مهنة التدريس لفساد المناخ وقلة الدخل.
«حالة بائسة، ودخل منخفض بالإضافة إلى ظروف عمل سيئة، كل ذلك ينتهك حرمة حقوق المعلمين. كما يحبط الشباب الموهوب عن الالتحاق والبقاء فى مهنة التدريس». هذا هو جزء من رسالة مشتركة بعث بها عدد من منظمات الأمم المتحدة فى اليوم العالمى للمعلم والذى يصادف الخامس من أكتوبر من كل عام.
اتخذت الأمم المتحدة من هذا اليوم مناسبة للتذكير بالمبادئ الأساسية التى ينبغى أن تحكم عمل المعلم والمناخ الذى يجب أن توفره له الدولة ليستطيع أن يؤدى عمله بكفاءة. وتشير الرسالة إلى الحاجة لإعادة إحياء الإعلان العالمى لحقوق المعلم الصادر فى 1966، خاصة فى الدول النامية والفقيرة. فأين الأستاذ عبدالله من هذا الإعلان؟
الأستاذ عبدالله الذى يعمل أربع عشرة ساعة يوميا، تراه من نوعية حياة أبنائه، ومن هيئته وملبسه، وذقنه غير الحليقة فى درجة خفيضة من السلم الاجتماعى.
وهو ما يضر بالعملية التعليمية، وفقا لمنظمة العمل الدولية.
«يجب التأكد بشكل خاص من رواتب المعلمين، بحيث تكفل لهم التقدير. فالنظرة إليهم تعتمد إلى حد كبير على مركزهم الاقتصادى، الذى يدل على مكانتهم فى المجتمع مقارنة بأصحاب المهن الأخرى»، وفقا لإعلان حقوق المعلم. وهنا تكفى المقارنة بين الصورة الذهنية للمدرس فى مصر والصورة الذهنية لموظف فى بنك أجنبى، لتوضيح الوضع المقلوب. لأن «الدخل يجب أن يعكس الأهمية النسبية للوظيفة فى المجتمع».
ووفقا لإعلان حقوق المعلم، راتب المدرس ينبغى أيضا أن يغطى «بالضرورة» إمكانية إنفاقه على دراسات أعلى وتدريب، بل القيام «بالأنشطة الثقافية الضرورية للارتقاء بنوعية التعليم» الذى يقدمه لأبنائنا.
«المعلم الذى يحصل على تدريب جيد وراتب محترم يكون مؤهلا أكثر من غيره ليقدم تعليما لائقا، ويقوم بدور نشط فى الترويج لقيم المواطنة والحوار»، كما تؤكد منظمة العمل الدولية. فما أبعد هذا الوضع عن وضع معلمى أبنائنا.
فهو النقيض على خط مستقيم، كالفرق بين الأسود والأبيض.
كم قاوم الأستاذ عبدالله الدروس الخصوصية لسنوات عديدة كان فيها هو العائل الوحيد لأمه وأخواته البنات، ثم ما لبث أن انهارت مقاومته بسبب تدهور أحوال معيشته جراء الغلاء.
كان ذلك فى نهاية الثمانينيات، وأوائل التسعينيات، عندما قفزت معدلات التضخم إلى ما فوق العشرين فى المائة لسنوات متتالية. كان الأستاذ عبدالله وصل إلى سن الزواج، ولكنه اضطر لأن يؤجله لعشر سنوات عجاف حتى يستطيع أن يوفر لزوم تكوين أسرة.
ولم يتسن له ذلك إلا عن طريق الدروس الخصوصية. ويلاحظ تقرير للبنك الدولى عن التعليم فى الشرق الأوسط (2008)، أن رواتب المعلمين «منخفضة للغاية» فى مصر، وأن دخل الدروس الخصوصية قد يصل لعشرة أضعاف الراتب الحكومى.
كما أن التفاوت فى المهارات العلمية والقدرات الفردية للمدرسين لا ينعكس على رواتبهم، مما يثبط الحافز على الإجادة والتميز.
ويأتى ضعف الرواتب بالرغم من أن التقرير يذكر فى موضع آخر أن 80 90 % من المعلمين فى المدارس الحكومية مؤهلون بشكل جيد للتدريس. ويلاحظ التقرير أن هذا التأهيل لا ينعكس على التعليم فى الفصل.
ويرتبط بسياسات العجب التعليمية أيضا ما وصلت إليه كليات التربية. فقد صارت فى مصاف كليات القمة، يتهافت على دخولها الشباب لأنها تكفل للمدرسين حياة نسبيا أفضل من مهن أخرى كثيرة، فقط بسبب الدروس الخصوصية المُجرَّمة قانونا. فأى كلية حكومية تلك التى تؤهل طلبتها للخروج على القانون. وأى معلم تقدمه السياسات الحكومية لأبنائنا؟
وإذا أردنا قياس مدى ضعف رواتب المعلمين، نحسب الفرق بين راتب معلم فى مدرسة أجنبية فى مصر ومعلم لنفس المرحلة فى مدرسة حكومية.
هذا المقدار يعكس معظم الفارق فى جودة العملية التعليمية. هذا الفارق هو ما يجب أن تدفعه الدولة للمدرسين إذا أرادت تطوير العملية التعليمية. فهذا يكفل جذب نوعية من الشباب المتعلم تعليما جيدا، المتحمس لأداء عمله. بينما راتب الحكومة يكفل نوعية أخرى تماما من الشباب.
وهكذا يحذر البنك الدولى بالنسبة لمصر من عجز فى المعلمين المؤهلين بحلول 2015. وبدلا من القيام بتعديل جذرى لهيكل رواتب المدرسين، تتباهى الحكومة بملاليم كادر ثم تغوص فى سفاسف المشاكل، وكأن لسان حالها يقول: «قف للمعلم.. واصفعه كفا».