عودة الماضى المستحيلة - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:12 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة الماضى المستحيلة

نشر فى : السبت 18 أكتوبر 2014 - 12:35 م | آخر تحديث : السبت 18 أكتوبر 2014 - 12:35 م

لأربع ساعات كاملة تأخر بث بيان اللواء «عمر سليمان» الرجل الثانى فى سلم السلطة.

كان السؤال الأول الذى طرح نفسه على المجلس العسكرى فى (١١) فبراير (٢٠١١): «ما الخطوة التالية لتسلم السلطة؟».

لم يكن المجلس مستعدا أو مهيئا للحكم وافتقد الخبرة السياسية بفداحة بما أفضى فى النهاية إلى إخفاق المرحلة الانتقالية الأولى ونقل السلطة إلى جماعة الإخوان المسلمين بلا دستور يضمن مدنية الدولة.

قبل بيان «تخلى مبارك عن الحكم» كان كل شىء يوحى أن عصرا انتهى، فالمظاهرات المليونية تجتاح البلاد والآلة الأمنية انهارت والقوات المسلحة نزلت الشارع، لكنها رفضت الصدام مع المتظاهرين والعالم وقف مبهورا أمام المشهد التاريخى، لكنه عمل على توظيفه لمصالحه فلم تكن هناك قيادة تمسك بزمام الأمور ولا برامج معلنة ترسم صورة المستقبل.

بنصوص الدستور فإن نقل السلطة إلى المجلس العسكرى، لم يكن شرعيا لكنه بقوة الفعل الثورى اكتسب شرعية القبول العام.

هذا ما لم يدركه المجلس العسكرى ولا اتسقت خطواته مع ضرورات الانتقال من عصر إلى عصر وتأسيس نظام سياسى جديد تستحقه مصر، التى جرفت مواردها وطاقتها بصورة تجعل من أى إصلاح خيارا صعب المنال.

فى لحظة انتقال السلطة تبدت معضلة حقيقية، فالقادمون الجدد إلى السلطة لم يتحمسوا لوصف ما جرى بأنه ثورة لكنهم لم يكونوا مستعدين لحماية نظام تقوضت شرعيته.

اختلطت الصور بقسوة، فالفعل الثورى تجاوز أى حسابات وتوقعات لكنه تعرض فى الوقت نفسه من أطراف متعددة لمحاولات إجهاض أثره وسرقة جوائزه.

تلخيص الثورة فى مؤامرة اعتداء مباشر على الحقيقة يهدف إلى محاولة شطبها من التاريخ وإلغاء إلهامها فى الذاكرة العامة والعودة إلى الماضى بكل خياراته التى ثار عليها المصريون.

ورغم أن الدستور أقر فى ديباجته بوحدة ثورتى يناير ويونيو فإن هناك من يطلب إلغاء الأولى والاستيلاء على الثانية.

بمعنى آخر فإن الحملة على يناير تستهدف إعادة إنتاج الماضى فى نسخة جديدة ومعدلة ومصادرة الرئاسة الجديدة نفسها لصالح السياسات والخيارات التى ثار عليها شعبها.

هذا مشروع اضطراب محقق تفضى تداعياته إلى مشروع اضطراب جديد فوق طاقة البلد على التحمل وتقويض أية رهانات فى مصر وعالمها العربى على أية أدوارإنقاذ لرئاستها.

المعنى أن الصراع فى جوهره على المستقبل وأن استدعاء الماضى بإلحاح رغم خطاياه التى لم يحاسب عليها عنوان مراوغ لخيارات وتوجهات يراد إعادة إنتاجها.

فى السعى لإعادة إنتاج الماضى وغسل سمعته ادعاءات لا تستند إلى أساس.

لا «مبارك» تخلى عن السلطة مختارا، فقد سدت أمامه كل المخارج لبقائه فوقها ولا «التوريث» كان شائعة مرت كسحابة صيف فوق مبنى «الحزب الوطنى» على النيل، بل مشروع تمدد من يوم إلى آخر فى بنية الحكم، أنهكه وأضعفه وأفقده اعتباره.

الادعاءات بذاتها إهانة لعقول المصريين.

لم يكن هناك أمام الرئيس الأسبق خيار آخر غير مغادرة السلطة وتخليه عنها، فالمظاهرات التى تصاعد غضبها اقتربت من القصر الرئاسى، وهددت باقتحامه والقوى الدولية، التى رهن القرار المصرى لصالحها لعقود طويلة تخلت عنه والقوات المسلحة، التى خرج من صفوفها قررت ألا تحارب معركته أو أن تتصادم مع شعبها.

سأل «مبارك» وزير دفاعه المشير «محمد حسين طنطاوى» أن يحمى الشرعية أو أن «يشيل الشيلة»، وهو طلب يعنى أمنيا طلب حماية الجيش واستخدام القوة لفض التظاهرات المليونية، ويعنى سياسيا إما التدخل بالقوة لصالحه وإما أن يتحمل الجيش مسئولية السلطة.

كان طلب الحماية مستحيلا وفوق طاقة الحقائق.

توافدت عشرات الملايين إلى الشوارع، داعية إلى رحيل «مبارك» والنظام لا يجد من يدافع عنه، تقوضت شرعيته بصورة كاملة تحت ثقل مشروع توريث الحكم من الأب إلى نجله الأصغر والفساد المنهجى الذى ضرب فى بنية الحكم وهيمنة جماعات المصالح على أعمال السلطة التنفيذية.

فى نفى «التوريث» مراوغة مع الحقائق لغسل السمعة ربما يعود التاريخ إلى سابق عهده فى زواج السلطة والثروة.

القضية ليست «مبارك» بقدر ما هى سياساته التى أفضت إلى الثورة عليه وإطاحته من الحكم.

والقضية ليست نجله بقدر ما هى فلسفة التوريث والمصالح التى استهدفتها.

فى نهايات (٢٠١٠) استبد القلق برئيس المخابرات العسكرية اللواء «عبدالفتاح السيسى» من احتمال أن يعلن الرئيس فى مايو التالى تقاعده مفسحا المجال أمام نجله للترشح لرئاسة الجمهورية ونقل قلقه إلى المشير «طنطاوى»، داعيا إلى وضع خطة لما يجب أن يكون عليه موقف الجيش إذا ما داهمته الأحداث وردود أفعالها الغاضبة المرشحة أن تفلت تفاعلاتها عن أى حسابات.

كانت لدى المشير المخاوف ذاتها، ورغم ولائه لـ«مبارك» ناهض التوريث وتواترت المعلومات عن مناهضة المؤسسة العسكرية كلها.

بحسب رواية «السيسى» فإن التغيير كان محتما لنظام «بليد» فقد أهليته.

فى أبريل (٢٠١١) بدا منزعجا من اتهام المجلس العسكرى بحماية «مبارك» من المحاكمة قائلا بالنص فى اجتماع رسمى مع شخصيات سياسية وإعلامية حضره اللواءان «محمود حجازى» رئيس الأركان الحالى و«محمد العصار» الذى يرجح أن يعلن قريبا مستشارا للأمن القومى: «لماذا نحميه؟.. أنتم تتهموننا فى شرفنا الوطنى».

بحسب اللواء «حسن الروينى» قائد المنطقة العسكرية المركزية أثناء ثورة يناير فإنه سأل وزير الدفاع يوم (١٠) فبراير أن يذهب بقواته للقبض على «مبارك» رغم أنه لا يناهضه، فقد أصبح وجوده عبئا على الجيش والدولة والبلد كلها، كما دعاه قائد بارز أعلى رتبة قبل ذلك فى (٢) فبراير إلى خيار مماثل: «اقلبه».

المعنى أن إطاحة «مبارك» كانت محتمة وأنه لم يكن هناك بديل آخر غير الانحياز للإرادة الشعبية فى غضبها على نظام يخاصم عصره.

لقد خلع خلعا من السلطة وأى ادعاء بأنه تركها مختارا أقرب إلى تخيلات تفتقد حبكتها.

من أسباب إخفاق المجلس العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية الأولى أن خياراته لم تستوعب التغييرات العميقة فى المجتمع المصرى، وللسبب نفسه انتهت تجربة «محمد مرسى» فى الحكم إلى كارثة أفضت إلى تقويض أى مستقبل لجماعة الإخوان المسلمين فى أى مدى منظور.

لم يعد ممكنا أن تحكم مصر مرة أخرى بالطريقة التى كانت تحكم بها من قبل وأخطر ما يعترضها الآن المحاولات التى تبذل على نطاق واسع لترهيب الرئاسة الجديدة بقوة المال والنفوذ وتطويعها لخيارات الماضى، وهو خيار مستحيل ألا أن يكون ثمنه اضطرابا جديدا لا تحتمله الرئاسة ولا يطيقه المستقبل.