لا شىء يبرر التعذيب - سيد قاسم المصري - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 7:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا شىء يبرر التعذيب

نشر فى : الخميس 18 ديسمبر 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 18 ديسمبر 2014 - 8:00 ص

كان من بين المبادى التى قام عليها النظام العالمى الذى نشأ على إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول. وظل هذا المبدأ لسنوات طويلة جدارا قويا تحتمى خلفه الدول وتشهره فى وجه بعضها البعض إذا حاولت إحداها إثارة موضوع يشتم منه أنه يمس جانبا من الجوانب التى قد تعد شأنا داخليا، وهكذا ظلت ساحة حقوق الإنسان ــ ردحا من الزمان ــ بمنأى عن التدخل الدولى وذلك باستثناء الحالات التى يتدخل فيها مجلس الأمن بحكم الفصل السابع للميثاق الخاص بالتدابير التى تتخذ فى حالة حدوث خرق أو تهديد للسلم والأمن الدوليين.

ولكن ذلك لا يعنى أن الميثاق أغفل حقوق الإنسان فقد جعلها أحد مقاصد الأمم المتحدة ثم جاء بعد ذلك الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 10 ديسمبر 1948 والذى اتفقت فيه الدول على مفهوم مشترك لحقوق الإنسان كما نصت عليه ديباجته Common Understanding of these rights لكى يسترشد به الجميع دولا وهيئات وأفراد. إلا أن ذلك ظل فى إطار المبادى التى لا يساندها وسائل جبرية للتنفيذ، إلى أن لجأت الأمم المتحدة إلى وسيلة مبتكرة تمكنها من استخدام القانون الداخلى لتنفيذ التعهدات الدولية، وذلك من خلال إبرام اتفاقيات دولية فى مجال حقوق الإنسان، وقد تم حتى الآن إبرام تسع اتفاقيات فى مجال حقوق الإنسان من بينها اتفاقية مناهضة التعذيب، حيث إنه إذا انضمت دولة ما إلى معاهدة دولية فإن هذه المعاهدة تصبح قانونا ساريا فى البلاد بل وتعلو على القانون الداخلى وبذلك يتسنى استخدام القانون الداخلى لتنفيذ التعهدات الدولية، فاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات نصت على «عدم جواز احتجاج الدولة بأحكام القانون الداخلى لتبرير عدم تنفيذ معاهدة ما».

ولعل من أهم ما جاءت به اتفاقية مناهضة التعذيب هو النص فى مادتها الثانية على أنه «لا شىء يبرر التعذيب».. لا أوامر الرؤساء ولا الظروف الاستثنائية سواء كانت حالة حرب أو قلاقل داخلية، وعلى ذلك فالإرهاب لا يبرر التعذيب لأن الجريمة لا تبرر الجريمة، إلا أن كثيرا من الدول بما فيها مصر تدرج الإرهاب كأحد المصاعب التى تواجه تطبيق الاتفاقية.

•••

ومن المؤسف أن الهجمات الإرهابية التى تعرضت لها الولايات المتحدة فى 11 سبتمبر 2001 قد أدت إلى تقهقر حقوق الإنسان فى العالم أجمع لعقود من الزمان وأضاعت قدرا كثيرا من الإنجازات التى حققها البشرية فى هذا المجال خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضى، وبات هناك اعتياد على مشاهد القمع الوحشى الذى يمارس باسم مكافحة الإرهاب كما أصبحت اعتبارات الأمن هى التى لها الكلمة العليا وتراخت كثيرا اعتبارات العدالة وحقوق الإنسان ومفهوم المساءلة وعدم الإفلات من العقاب. وقد أشارت منظمة العفو الدولية إلى هذه الظواهر وذكرت «أن الحكومات أصبحت تنظر بشكل متزايد إلى حقوق الإنسان وكأنها عقبة فى وجه تحقيق الانتصار على الإرهاب وتنظر إلى نشطاء حقوق الإنسان إما على أنهم مثاليون سذج أو مدافعون عن الإرهاب وتم إصدار قوانين على عجل تجمد الأموال وتقيد الحريات وتقلص الضمانات ضد انتهاكات حقوق الإنسان بل إن بعض القوانين استخدم تعاريف للإرهاب تتسم بالعمومية والغموض، كما تنامت سلطات أجهزة الأمن وازدادت مشاركة الأجهزة الاستخبارية التى لا تخضع للإشراف القضائى فى المهام الأمنية.

•••

وفى الحرب على الإرهاب ظهرت نزعة تصور الأجانب عموما وبخاصة اللاجئون منهم على أنهم إرهابيون، وعادت مشاعر العنصرية وكراهة الأجانب إلى الظهور وازدهرت سياسة المعايير المزدوجة ودبلوماسية النفاق وأصبحتا أكثر وضوحا. فرغبة من أمريكا مثلا فى إقامة تحالفات ضد الإرهاب نجدها تغض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التى ترتكبها حلفاؤها فى مجال حقوق الإنسان بل أصبحت هذه الانتهاكات مثار تأييد وتشجيع باعتبارها جزءا من الحملة الدولية للقضاء على الإرهاب كما نشهده فيما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين، وبالرغم من أن استعداد الحكومات للتضحية بحقوق الإنسان لمصلحة الأمن ليس فيه جديد، فإن الفرق هذه المرة أن الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة أو تلك التى اشتهرت بالدفاع عن حقوق الإنسان كانت هى السباقة إلى وضع قوانين شديدة القسوة لتقييد الحريات المدنية.

والأنكى من ذلك أن نجد أنه فى إطار الأمم المتحدة تم تجاهل حقوق الإنسان عندما أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1373 الذى حدد فيه طائفة من التدابير التشريعية التى يجب على الدول اتخاذها لمكافحة الإرهاب وإنشاء لجنة لمتابعة تنفيذ الدول لهذه التوصيات، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى أهمية التقيد بحقوق الإنسان بالرغم من أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان طالبت المجلس بذلك.

<<<

لقد حاول جون برنان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (C.I.A.) – فى معرض دفاعه عن مؤسسته – الاستناد إلى اعتبارات مقاومة الإرهاب وإنقاذ الأرواح وتجنيب الولايات المتحدة مخاطر شبيهة بما حدث فى 11 سبتمبر كما تجنب فى مؤتمره الصحفى المطول الذى عقده يوم 10 ديسمبر الحالى ذكر كلمة التعذيب بل استبدلها بعبارة «وسائل الاستجواب المشددة» Enhanced Interrogation Techniques إلا أن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، فالتعريف الوارد فى الاتفاقية ينص على أنه يقصد بالتعذيب أى عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أم نفسيا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول منه على معلومات أو اعتراف... الخ.

وأذكر أن إسرائيل لجأت إلى مثل ذلك عندما قدمت أحد تقاريرها إلى اللجنة وحاولت تبرير ما أسمته «الضغط الجسدى المعتدل» إلا أن اللجنة رفضت ذلك واعتبرته عملا من أعمال التعذيب وخرقا للاتفاقية.

•••

لا شك أن تقرير الكونجرس الأمريكى الذى أدان لـ (C.I.A.) بوضوح بارتكابها جرائم التعذيب قد أحدث هزات أرضية سمع دويها فى مختلف أرجاء العالم وستستمر تداعياتها لآجال طويلة قادمة، كما سبب مشكلات لكثير من دول العالم خاصة تلك الصديقة لأمريكا لأنه وضعها فى موقف حرج، فمثلا، على الدول الأطراف فى اتفاقية مناهضة التعذيب أن تبادر باحتجاز أى شخص أجنبى (أمريكى فى هذه الحالة) يوجد على أراضيها ويدعى أنه اقترف جرما طبقا لهذه الاتفاقية وعليها أن تتولى إجراء التحقيق معه ثم إما محاكمته أو تسليمه إلى الدولة التى تطالب بتسليمه.

وبناء على هذه الاتفاقية طالبت إسبانيا وبريطانيا بتسليمها «بينوشيه» رئيس جمهورية شيلى السابق والذى كان يزور بريطانيا لمحاكمته فى جرائم تعذيب مورست ضد مواطنين إسبان (مزدوجى الجنسية الإسبانية والشيلية). وكاد النزاع يصل إلى محكمة العدل الدولية وفقا للمادة 30 من الاتفاقية إلا أن بريطانيا اضطرت لإعادته إلى شيلى بعد صدور تقرير طبى يفيد بأن حالته الصحية لا تسمح بالمحاكمة.

هذا وتنص اتفاقية مناهضة التعذيب على أنه يجوز اعتبارها أساسا قانونيا للتسليم فيما يختص بمثل هذه الجرائم وذلك فى حالة عدم وجود معاهدات لتسليم المجرمين بين أى من الدول الأطراف.

كما أنه وفقا للمادة 8 فقرة (4) تتم معاملة هذه الجرائم – لأغراض التسليم – كما لو أنها اقترفت لا فى المكان الذى حدثت فيه فحسب، بل فى أراضى الدولة المطالبة بإقامة ولايتها القضائية.

•••

بقيت كلمة حق يجب أن تقال، فبالرغم مما ارتكبته السياسة الأمريكية من جرائم بشعة فى حق الشعوب التى لم تتوقف حتى اللحظة، إلا أننا نقف لحظة تأمل فى هذه الخطوة الجريئة التى اتخذتها إدارة أوباما عندما طالبت الكونجرس رسميا بإجراء هذا التحقيق الذى استغرق خمس سنوات ثم جاء فاضحا وواضحا دون مواربة أو إخفاء.

إن هذا التقرير سيلحق الضرر لا محالة بأعضاء إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن وقد يعرضهم لمتاعب قانونية جمة فى مختلف دول العالم، إلا أنه ألقى شعاعا من الضوء فى ظلمة السياسة الأمريكية الحالكة.

سيد قاسم المصري مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات