قبل سبعين عاما وفى إحدى أكبر دور العرض السينمائى فى العاصمة المصرية، شاهدت الفيلم الذى ترك بصماته على أحلام يقظتى ونومى أيضا لأيام وسنوات. أذكر أننى خرجت من دار العرض وكانت الحفلة صباحية، لم أفعل شيئا سوى التسكع حالمًا فى شارع الألفى لأعود وأقف فى طابور التذاكر لحفل الثالثة والنصف. وفى الصيف التالى والمواسم اللاحقة لم أترك فرصة تضيع ليعرض الفيلم فى إحدى الدور غير المغطاة التى كانت تغص بها القاهرة ولا أشاهده. أظن أنه فى مرحلة من مراحل المراهقة لم تفتنى المساهمة بمداخلة أسترجع فيها مشهدا أو آخر من الفيلم، كلما حضرت مناقشة مفتوحة عن الحور اللائى وعد بهن الأتقياء الصالحون، أو قراءة عامة فى قطعة من أدب الاكتشافات والرحلات الجغرافية، أو محاضرة أكاديمية فى علم الأجناس. بالفعل عشت فترة اشتهرت فيها خبيرا فى موضوع الجمال وبخاصة مواقع التقاء جمال الطبيعة بجمال البشر. كله بفضل فيلم عصافير الجنة بطولة لويس جوردان وجيف شاندلر والرائعة التى سلبت لبى الممثلة الناشئة دبرا باجيت.
***
عادت القارة الزرقاء تحتل مكانة متقدمة من تفكيرى فى الآونة الأخيرة، عادت إلى الذاكرة صور المحيط الهادى، مساحات من المياه الممتدة فى كل اتجاه نحو آفاق لا نهائية ولا محددة. عادت معها صور الجزر الخضراء البكر، أشجار تحمل أجمل الثمار وأروعها أشكالا وألوانا كأشجار الكريسماس بزينتها ليلة العيد. عادت إلى الذاكرة صور كثيرة. كم تمنيت لو بقيت فى الذاكرة لا تغادر. مكانها هناك وليس هنا. هنا تصادمت مع منغصات الحلم وتعقيدات واقع شاء بتصرفات ناسه وأساليبه أن يبدو همجيا وفى مشاهد معينة مفترسا.
أتحدث هنا عن سباق دائر بين قوى دولية كبرى عرفت منذ القرن السادس عشر كيف تتسلل إلى النصف الجنوبى لهذا المحيط الأعظم ضمن حملات اكتشافات واحتلالات غطت معظم مياه ويابس نصف الكرة الجنوبى، وقوى دولية كبرى ولكن ناشئة فى طموحها جامحة فى شهوتها للامتلاك والهيمنة. صدمتنى صور القادة الجدد وحكام هذه البلاد وهم يتدافعون بالأساطيل أو برجال يرتدون طواقم عمل كحلية أو حالكة السواد وأربطة عنق بألوان زاهية وفى يمناهم حقائب أوراق مكتظة بالمشاريع الاستثمارية والقروض السخية فى شروطها والرسومات الهندسية. كم حقيبة تحتوى على مشروع بناء ميناء جديد يختص باستقبال سفن الصيد العملاقة، كم حقيبة أخرى تحمل عرضا بقرض يمول مشروعا ينتهى بالحفر تحت هذا الجبل الأخضر الجميل لاستخراج فحم ونفط. جاءوا من أمريكا والصين وأستراليا ليقضوا على هذه الطبيعة الناعمة والهادئة ويتركوا وراءهم كتلا من صخور سوداء وآثار أياد شوهت المكان. هؤلاء لن يرحلوا. هم واثقون أن حكام هذه الجزر واقعون تحت إرهاب من لا يرحم.
***
المياه فى المحيط الهادى كالمياه فى المحيط الهندى ارتفع منسوبها ليصل فى مواقع كثيرة إلى حد الخطر. جزر عديدة كانت مرتعا لسياح ومتقاعدين فضلوا أن يقضوا أحلى أيامهم تحت ظلال وارفة وبين شعوب آمنة ومسالمة. هذه الجزر وقد صارت دولا مستقلة بعناوين مثل فيجى وفالواتو وسولومون تعد الأيام الباقية لسكانها إذا استمرت الولايات المتحدة والهند واليابان تستخدم مصادر طاقة مؤذية للبيئة. أملها معلق بيوم تقرر فيه هذه الدول الكبرى المتسابقة على احتلال مواقع نفوذ فى جنوب الباسيفيكى أن تعجل بتنفيذ برامج تستعد على وقف تردى المناخ العالمى. سمعت رجل علم عاش فى جزيرة من هذه الجزر وأحب الطبيعة فيها والبشر وتزوج من عصافير الجنة عصفورة، سمعته ينقل عن حكمائهم، الذين هم فى حقيقة الأمر نصف حكماء ونصف سحرة، «جاءنا رجل أبيض، باع لنا أخلاقه وأديانه مقابل استمتاعه بجمال طبيعتنا ووفرة أسماكنا. ثم جاءنا رجل أصفر وأفواج جديدة من الرجال البيض، كلهم يبيعون قروضا مقابل قواعد عسكرية. لا أحد منهم مهتم بقضيتنا، قضية شعب يغرق».
***
الأستراليون قلقون. هم سادة ووكلاء فى آن واحد. أتصور أن للقلق الاسترالى مصادر كثيرة، أهمها فى نظرى تراجع الثقة لدى الطبقة السياسية الحاكمة فى استقرار السياسة الخارجية الأمريكية وانضباطها. يدرك الاستراليون كغيرهم من قادة السياسة فى جنوب شرق آسيا أن الولايات المتحدة المسئول الرئيس فى العالم عن إطلاق ثم إشباع شهية العملاق الصينى إلى العالمية. يدا بيد اشتغل الأمريكيون مع الصينيين فى توظيف العولمة لخدمة صعود الصين إلى القمة مشاركا وفى القريب العاجل منافسا. صحيح أن كل الاقتصادات، سواء الغربية أو فى دول الجوار الآسيوية وأستراليا فى المقدمة، استفادت من انفتاح الصين وشجعته، ولكنها فعلت ذلك تحت مظلة الاطمئنان إلى وجود أمريكا ضامنا وحاميا. كانت أمريكا موجودة ولكن فى حال انحدار منذ اكتشاف نواحى ضعفها عندما اختارت الإعلان عن القطبية الأحادية نظاما دوليا جديدا دون أن تدقق فى حسابات قوتها الحقيقية وحال بنيتها التحتية.
***
المقارنة جائزة بين ما أصاب إفريقيا والعالم بسبب السباق الأوروبى على استعمارها فى نهاية القرن التاسع عشر، وبين ما يمكن أن يصيب دول وجزر وشعوب جنوب الباسيفيكى بسبب السباق البادئ لتوه من جانب فرنسا وأمريكا وأستراليا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. أعتقد أن العقل الأوروبى الذى استهان بصحة ومعيشة شعوب الباسيفيكى الجنوبى حين أجرت معظم تجاربها النووية فى تلك الجزر أو جزر قريبة منها لن يهتم كثيرا بجزر وشعوب تفقد مساكنها ومزارعها ومدارس أبنائها مع موجات عالية متزايدة التكرار. هذا العقل لن يهتم بعصافير الجنة التى شكلت أحلى ذكريات طفولتنا وسنوات مراهقتنا.