نحتفل بعد أيام بانعقاد أول جلسة لثانى مجلس نواب مصرى يأتى كثمرة من ثمار ثورة. ولا يسعنى وأنا أشارك الكثيرين فرحتهم بهذا الانجاز الديمقراطى إلا أن أتمنى ألا يحتاج شعب مصر إلى ثورة ثالثة بعد مائة عام أخرى وتكون من بين ثمراتها انتخابات حرة وبرلمان يمثل أحزابا وتيارات سياسية متعددة ويجسد فى الوقت نفسه حقيقة أن فى مصر نساء، وبعضهن متعلمات وأكثرهن لسن أقل من الرجال طموحا ووطنية وقدرة على العمل السياسى.
مثل معظم المواطنين فى مصر، لا أعرف ماذا تنوى الأغلبية، بالدقة ولا بالتقريب، أن تفعله بأصوات أعضائها فى هذا البرلمان خلال الفترة ما بين بداية الانعقاد فى الأسبوع القادم وتولى شخص، لا نعرفه حتى الآن، منصب رئيس الدولة. لم يبلغنا أحد بما أعدته الأغلبية من جدول أعمال أو موضوعات تستحق الطرح العاجل والتشريع المناسب خلال هذه الفترة. لا عذر بأن التجربة غير متوفرة والخبرة نادرة، فقد كان للتيار صاحب هذه الأغلبية فى برلمان حسنى مبارك اكثر من ثمانين نائبا لا شك اكتسبوا خبرة وأغلبهم لا شك قادر على تدريب النواب المستجدين وتلقينهم أصول العمل النيابى.
●●●
أتصور، وعن حق، أن لدى الأغلبية خبرات متميزة فى عديد الشئون والتخصصات، وأن هؤلاء ربما، على عكس ما يظن البعض ورغم أننا لم نبلغ بما فى النوايا، يقضون الساعات الطويلة منهمكين فى صياغة مشروعات قوانين تستند إلى أفكار خرجت أخيرا من أدراج قضت فيها عقودا من الزمن، كما تستند، فيما نأمل ونرجو، إلى أحلام ثوار وآمال ثورة نشبت فى يناير الماضى ولم تجد سبيلها بعد إلى التحقيق. ولا أبالغ إذا قلت إن فى هذه الأخيرة، أى فى أحلام الثوار وآمال الثورة، يكمن مستقبل هذا البرلمان وهذه الأغلبية وهذه الثورة ومصير الديمقراطية فى هذا البلد.
●●●
ببساطة شديدة، وبصراحة كبيرة، يجب أن نتوافق على أن الشرعية السياسية لهذه الأغلبية، بل لكل أعضاء هذا البرلمان، مستمدة من الانتخابات، هذه الانتخابات خلافا لأى انتخابات أخرى تستمد شرعيتها من ثورة. نعرف ويعرف الكثيرون، أن هذه الانتخابات ما كانت لتجرى على هذا النحو، فى عصر مبارك وجماعته، وأنه لولا الثورة فى يناير الماضى وما سبقها وتلاها من ثورات عربية أخرى، ما وصلت تيارات سياسية بعينها إلى نسبة الأغلبية التى توفرت لها ،وما دخلت أصلا إلى البرلمان.
نعرف ايضا، وأتمنى أن يعرف أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة أن «استمرار الثورة»، رغم كل العقبات التى وقفت فى طريقها ورغم كل المتاعب التى واجهت الثوار، ورغم سقوط المئات منهم قتلى أو معذبين أو معتقلين، نعرف أن استمرار الثورة هو الذى حقق الحماية للانتخابات ووبفضله تصل الآن الأغلبية والاقلية إلى البرلمان. وأظن أن اثنين لن يختلفا على أن الثورة لو توقفت فى مارس أو ابريل أو حتى فى أكتوبر لكان الاحتمال كبير ألا تجرى الانتخابات ولا تنجح أغلبية ولا ينعقد مجلس النواب بعد أيام.
●●●
بالتصور نفسه، يصعب الجزم بأن أعضاء الأغلبية البرلمانية، بل وأعضاء كافة التيارات الأخرى فى البرلمان سوف يعملون بكفاءة واطمئنان، إذا لم تستمر الثورة تحميهم باعتبار البرلمان يجسد أحد أهم انجازاتها. من ناحية أخرى، يبدو واضحا من خلال سياق التطورات خلال الشهور الماضية، أن الثوار لن يحققوا أحلامهم ولن تحقق الثورة آمالها لو أنها استجابت لرسائل وجهود وضغوط تدعوها للتوقف أو تدفعها نحو صحراء تتوه فيها أو تجبرها على تغيير جلدها. نسمع أصوات فى بعض تيارات الأغلبية تلمح إلى ضرورة إخلاء المشهد السياسى من الثورة والثوار، بحجة أن الديمقراطية مورست والبرلمان المنتخب من الشعب أقيم. نسمع وعودا أن تحقق الأغلبية من خلال قوتها التشريعية وسلطتها التنفيذية وسيطرتها المحتملة على السلطة الرابعة بعضا مما لم يتحقق من أهداف الثورة، وهذه وعود يتعين على الثوار الاطمئنان إلى صدقها قبل أن يختفوا بارادتهم من الساحة. هناك حجة ثالثة، وهى من حيث الشكل حجة وجيهة. يقال إنه لا يوجد نظام شرعى فى أى دولة من دول العالم يقبل أن يعمل وسيف ثورة مسلط عليه.
الرد الصريح على هذه الحجج جميعا هو أن قيام نظام جديد فى مصر، شرعى أو غير شرعى، لا يحق له أن يختصر فى نفسه الثورة التى مهدت له طريق الوصول للحكم، ولا يحق له خلع الثورة والحلول محلها. هذا النظام الحاكم سيبقى حقيقة الأمر ولفترة غير قصيرة خطوة، وإن مهمة وواسعة، على طريق التغيير والنهضة وبناء مجتمع عصرى أكفأ وأقدر وأعدل من أى نظام سابق تولى حكم مصر. من أجل هذه النهضة زهقت ارواح وضحى الشعب براحته وامنه واستعد ليخطو خطوات عديدة وليس خطوة واحدة.
●●●
دعونا نتخيل واقعنا السياسى خلال الشهور القليلة القادمة، وربما لسنوات قليلة قادمة، فى حال لم تفلح الضغوط والمساعى التى تمارس حاليا فى الداخل ومن الخارج لإخلاء مصر من ثوارها أو إحباطهم. نتخيل مصر وقد دخلت مرحلة تتنافس على توجيه الدفة السياسية ثلاث قوى أساسية أولها : المجلس العسكرى وثانيها التيارات الاسلامية التى حصلت على أصوات أغلبية من الناخبين وثالثها الثورة. وليس خافيا أن علماء اجتماع وسياسة ومراقبون أجانب، بينهم توم فريدمان وجيمى كارتر، تابعوا تطور المشهد السياسى المصرى منذ شهور، يتوقعون أن تكون المنافسة شديدة على الامساك بمراكز القوة فى الدولة بين الطرف الأول والطرف الثانى، أى بين المجلس العسكرى والاخوان المسلمين. ولكنهم يختلفون حين يدخلون فى تفاصيل المشهد وفى رسم سيناريوهات المرحلة. يصر البعض منهم على أن بعض أعضاء الطرفين الأول والثانى قد يجدوا مصلحة مشتركة فى التخلص من الطرف الثالث، أى من الثورة، ولكل أسبابه الخاصة. آخرون يعتقدون أن تيارات الأغلبية الاسلامية التى جربت لسنوات، بل عقود، مخاطر انفراد السلطة الحاكمة بها وما تعرضت له من عنف وتشريد وقتل فى غياب مواقف إيجابية من جانب الجماهير المتعاطفة معها، لن تتخلى عن التحالف مع قوى الثورة والاعتماد على مصداقيتها الخارجية وحماستها فى الداخل. فالثورة ستبقى، بالنسبة لتيار واسع فى صفوف الأغلبية وبخاصة صفوف الشباب، القوة الحامية للسلطة أو الجهة أو التيار السياسى الذى يلتزم تحقيق أهدافها والتصدى لضغوط حصر الثوار ومطاردتهم. لن تتخلى الثورة عن هؤلاء الذين ساعدوها وقت محنتها، خاصة وأن هؤلاء أصبحوا الآن مدينين للثورة التى أتاحت لهم الفرصة لتحقيق ما لم يتمكنوا من تحقيقه على امتداد مائة عام هى عمر مرحلة ما بين الثورتين : ثورة 1919 التى مهدت لهم طريق الظهور وثورة 2011 التى مهدت لهم طريق السلطة.