الموجة الأولى
١٨ يومًا
الجمعة ٢٨ يناير.. منتصف الليل
أقف عند الصيدلية على ناصية شارعنا أنتظر الصيدلى ليعبئ ما اشتريت، وأنتظر الأصدقاء يعودون من رحلة البحث عن لوازم خياطة الجروح. الحصول على الإبر والخيط الجراحى صعب. فالصيدليات لا يسمح لها ببيعها إلا للمستشفيات، فلما ذهبنا إلى المستشفيات لنطلبها لم يسمحوا لنا حتى بالدخول، وصيدلية الإسعاف التى من المفترض أن تسعف الناس على مدى ٢٤ ساعة وجدناها موصدة. دُرْنا نلملم الأشياء المتاحة من أى صيدلية نجدها لم تزل مفتوحة. أنوار الشوارع مطفأة ولا نرى شرطيا واحدا فى الشارع.
الداخلية، التى هزمها الثوار فى الإسكندرية والسويس، والتى ستخسر القاهرة خلال ساعات، سحبت كل رجالها من الشوارع. يقولون إن عدد أفراد المؤسسة الأمنية قد بلغ المليون ونصف المليون. والآن نسمع أن الأوامر جاءتهم بالانسحاب من الخدمة. حكومتنا أطفأت الأنوار وروَّحت. لأ، فى الحقيقة هى لم تُرَوِّح: أطفأت الأنوار وفى الظلام خلعت زيها التنكرى وظهرت على حقيقتها كقوة محتلة.
تأتى أخبار أن الداخلية تفتح السجون والأقسام فى طول البلاد وعرضها وتطلق سراح ـ أو حتى تجبر على الهرب ـ المحبوسين هناك ـ بمن فى ذلك أصحاب جرائم العنف. سنكتشف فيما بعد أن اللواء محمد البطران، رئيس مباحث السجون، كان يحاول أن يسيطر على الموقف. اللواء البطران له سمعة طيبة، أمس، زار سجن الفيوم فاستقرت الأمور هناك. سنعرف فيما بعد أنه الآن ـ فى هذه اللحظة التى أقف فيها على الناصية انتظر الدواء ـ يهاتف أخته وهو فى غضب شديد، يقول لها إن حبيب العادلى وزير الداخلية قد أمر بالانسحاب من وإغلاق ١٧ قسم بوليس وأنه هكذا سيولع فى البلد. غدا سيذهب اللواء البطران إلى سجن أبوزعبل ويتحدث مع المساجين ويعيد السلام هناك، ثم سيذهب إلى سجن القَطَّة ويتحدث مع المساجين وسيوافقون على العودة إلى زنازينهم، ثم سيُقتَل. سيطلق عليه أحد مسئولى الداخلية النار، وستتهم الداخلية المساجين، وستلاحق أخته، الدكتورة منال البطران، قاتليه فى المحاكم لشهور وربما لسنين.
أرمى بنظرى إلى أعلى فتلفت شرفتى بأنوارها وتكعيبتها ونباتاتها عينىّ.
تأتى الست كريمة لتحادثنى. هى من سنى وهى ابنة رجل كان صاحب محل الخضار والفاكهة تحت بيتنا هنا. كان أبوها يجلس صامتا فى الركن طول النهار، يدخن، وكانت أمها تدير المحل والأبناء. حين كنت صغيرة كنت أرقبهم بشغف من هذه الشرفة المضيئة الآن. كانوا أسرة من أم وأب وابنتين وابن ـ مثلنا. وهنا ينتهى الشبه؛ كانت الخلافات والغضب فى بيتنا تبدى نفسها فى توتر صامت وكان العقاب إذا وقع هو «سحب علامات المحبة»، أما هم فكانت عواطفهم وتبادلاتهم مكشوفة للجميع: صراخ وصويت والأم تجرى وراء الأطفال فى الشارع تلوح بخيرزانة طويلة والأطفال يصرخون ويجرون ويتشبثون بالمارة الذين يضطرون للتدخل والحماية والتفاوض ـ كنت متأكدة أننى أفضل أسلوبهم عن «سحب علامات المحبة». رحل الأب الصامت، والأم المسيطرة، ويدير الأخ الآن محل الخضار والفاكهة ويتشاجر فى الشارع أحيانا وكثيرا ما تتهشم الواجهة الزجاجية الفاخرة التى صنعها لدكانه، والست كريمة تملك ثلاثة محال للأدوات المنزلية وتدير الشارع من كرسى على الناصية، وحين كان أطفالها بعد صغارا كنا نراهم يمرّون بها هادئين مهذبين يرتدون لبس المدارس المكوى ويحملون شنطة الكتب.
تأتى لتحادثنى وتقول إنها قلقة: «داروا لمّوا كل الحراسة من على البنوك والسفارات، ومش بس كدة دول طلَقوا البلطجية فى الشوارع. يعنى نعيش إزاى من غير أمن؟».
أسأل ضاحكة: «معقول إنتى خايفة؟».
«طبعا خايفة».
«تخافى إزاى بس؟ ده ولا ١٠٠ بلطجى يقدروا عليكى».
بعد أسبوعين سيسقط مبارك وستخلع هى الجلابية والطرحة وترتدى بنطلونا واسعا ينزل عليه قميص طويل، ستغطى رأسها بإيشارب وستقول لى «أهه، تغيير» أما الآن، فى منتصف ليلة ٢٨ يناير نقف معا نرقب ثلاثة من شباب الحى يتسلحون بالعصى ويتخذون مواقعهم على باب عمارتى. تسألنى «فين الأولاد؟» فأقول «جايين».
ونحن نمر بالسيارة من التحرير إلى الزمالك نبحث عن الصيدليات كانت الأخبار تأتى بانسحاب الشرطة. وحين انتهينا من شراء الأدوية وبدأنا فى العودة إلى التحرير مررنا على ثلاث لجان شعبية فى الزمالك وحدها. فى كل حى نزل الناس من بيوتهم وشكلوا اللجان، أقاموا حواجز من كاوتش السيارات والكراسى والحجر وعروق الخشب وحواجز المرور الحديدية، واختلفت شخصية الحاجز مع اختلاف الحى؛ فى الأحياء الشعبية حملوا الشوم وفى الأحياء الثرية كانوا يمسكون بعصى المشى وأحيانا بمضارب الجولف، وفى أحد معابر الزمالك جلست سيدة على كرسى رحلات تمسك بكأس من الشراب. لمدة أسبوع كان أمن المدن فى أيدى اللجان الشعبية وكانوا يستمتعون بأداء دورهم: يطلبون البطاقات والرخص ويطلعون عليها ثم يشيرون للسيارة بالمرور بحركة درامية فى تهذيبها ـ فى كل مكان كان الشباب يحرصون على القيام بعملهم بجدية وبلطف، ويعتذرون عن تعطيل المرور، وكنا نحن أيضا فى سياراتنا فى غاية التهذيب والأدب، نشكرهم على حمايتنا، ونشكرهم على أنهم أعادوا لنا مدينتنا. الكل يتجاهل حظر التجوال والأطفال تلعب فى الشوارع، والكل ـ وبالذات النساء ـ يقولون إنها أول مرة يشعرون بمثل هذا الأمان التام. كنا نتفكه، جادين، بأن من الأفضل أن نوفر الثمانية عشر بليون جنيه تَكْلِفَة وزارة الداخلية السنوية ونضعها فى شىء أكثر فائدة. الشباب ينظمون المرور ويجمعون القمامة ويوزعون مضادات الغاز. وبدأ الجرافيتى الثورى يظهر على الجدران وكل يوم يتطور ويزداد ثقة.
السبت ٢٩ يناير.. الثانية صباحا
الأوضاع أهدأ فى المسجد، «مسجد عباد الرحمن». أُضيف الأدوية التى أتينا بها إلى التلال المرصوصة التى أتى بها مواطنون غيرنا. أجد أخى أيضا قد أتى ومعه أدوية وسيارة. نجلس مع طبيب شاب مرهق يحكى لنا أنه أتى مع أربعة من أصدقائه من المنيا ليشاركوا فى التظاهرات ثم تاهوا من بعض، ومع انقطاع خدمة المحمول لم يستطيعوا التواصل، ثم بدأ الضرب وكان واجبه واضحا. لم يتوقف عن العمل لمدة عشر ساعات. يصطحبه أخى إلى مركز هشام مبارك للمساعدة القانونية والذى يقوم الآن بدور المأوى والمطعم إلى جانب تقديم الدعم القانونى للنشطاء. هذا المركز أنشأته مجموعة من المحامين، بينهم زوج أختى المحامى أحمد سيف الإسلام حمد، فى عام ١٩٩٠، وأطلقوا عليه اسم واحد من مجموعتهم؛ هشام مبارك الذى توفى قبلها بعشر سنوات إثر نوبة قلبية وعنده خمسة وثلاثون عاما. الليلة ارض المكان وكراسيه هى مكان المبيت للعشرات من المصريين من خارج القاهرة الذين أتوا ليساهموا فى الثورة.
*****
قتلوا المئات ليلة الجمعة هذه، وأصابوا الآلاف. منهم من عاش ومنهم من استشهد لاحقا بتأثير الجراح. وجوههم المبتسمة المتفائلة فى كل مكان؛ شهداؤنا الذين ساروا فى طريق الثورة واستشهدوا قبل أن يحيوا الحياة التى حلموا بها. أغنيتهم تصبح نشيدنا، نسير فى جنازاتهم ونقسم «يا نجيب حقهم، يا نموت زيهم»، ثم نقسم «هنجيب حقهم، ونحقق حلمهم». إذا تعبنا، أو خبا عندنا الأمل، أو اهتز للحظة تفاؤلنا، نفتح قلوبنا على مصراعيها فيأتوننا، بوجوههم المضيئة، بآمالهم، بحياتهم التى بترت فى الدنيا، بأهلهم، بأحبائهم، بأطفالهم. هذا هو الآن مشروع حياتنا: أن نخلق تلك الـ«مصر» التى استشهدوا من أجلها.
السبت ٢٩ يناير.. الثالثة صباحا
فى الطريق إلى البيت أمر مرة أخرى خلال شوارع القاهرة المظلمة، خلال القمامة المتطايرة وسيارات الأمن المدمرة والمحال المغلقة والفنادق المعتمة ومقر الحزب المحترق ـ والآن يبدو لى أن كل شىء فى محله، لم يعد فيلما سينمائيا، هذه هى الحقيقة التى عشناها لعقود، تجسدت أخيرا وطفت إلى السطح المنظور للحياة. أخيرا تعكس عاصمتنا الأحوال الحقيقية لبلادنا ولنا: محترقة، مهشمة، مدمرة، متسخة. والآن علينا إنقاذ البلاد وإنقاذ أنفسنا.
أصل مرة أخرى إلى الدبابات الأربع فى ماسبيرو. الجنود يرتدون بدل التمويه ومازالوا يقفون فوق الدبابات. أتساءل إن كانوا سيضطرون إلى الوقوف طول الليل أم سيُسمَح لهم على الأقل بالجلوس. وراءهم مباشرة لافتة مطعم «بابريكا». أنظر فى نوافذ المطعم المظلم وأرى ــ بوضوح يخطف أنفاسى ــ أرانى وأنا شابة مشتعلة بالحب والقصائد ورياح الخماسين العاصفة أجلس ـ أميل عبر الطاولة نحو الرجل الذى أُحِبّ، الرجل الذى تبعنى من لندن إلى القاهرة، وأتركه يمسك بيداى ويُسكن قُبلته فى كفى تحت أعين السفرجية والزبائن.