الحُكم مسئولية - سمير العيطة - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 8:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحُكم مسئولية

نشر فى : الأحد 19 فبراير 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : الأحد 19 فبراير 2023 - 8:30 م
الأنظمة السياسية البرلمانية ليست خيرا مطلقا، كما ليست الأنظمة الرئاسية شرا مطلقا. فى الأنظمة البرلمانيّة يُمكِن لأقليّة حصلت على مقاعد انتخابيّة أن تُعَطِّل السلطة التنفيذيّة أو أن تدفعها لخيارات متطرّفة. خاصّةً إن كان التمثيل البرلمانى ينتُج عن تمويل أو هيمنة قوى سلطة فئوية داخلية أو عن تدخلات خارجيّة لدولٍ نافذة. فى حين أنّ النظام الذى يقود فيه رئيسٌ (أو ملِكٌ) السلطة التنفيذيّة يُمكِن له، بسهولةٍ أكبر فى أغلب الأحيان، أن يقوم بإصلاحات جوهريّة ضروريّة لأخذ البلاد إلى نهجٍ أفضل.

لكن فى كلتا الحالتين، يتحمّل من يقود البلاد المسئوليّة عن خياراته ويتحمّل من يقوم بإصلاحات جوهريّة مخاطر فقدان الشعبيّة لأنّه فى جميع الأحوال سيتعامل مع مصالح خاصّة فرديّة أو جماعيّة أو لدولٍ خارجيّة. والتاريخ والمجتمع سيحكُمان ككلّ، وأحيانا بشكلٍ متأخِّر، إن كان فعلا خدم المصلحة العامّة أم لا. مثل هؤلاء الإصلاحيّين الذين يخدمون عامّة شعبهم هم نادرون فى تاريخ الشعوب.

وفى جميع الأحوال تبقى الحريّات العامّة، الفرديّة أو الجماعيّة، وحمايتها هى الضرورة الأساسيّة، مهما كان النظام السياسى، كى لا تتمادى أيّة سلطة تنفيذيّة أو تشريعيّة (أو حتّى قضائيّة) فى ممارسات لا تخدم المصلحة العامّة. مع الحذر من أن تُحصَر هذه الحريّات بالصحافة والإعلام اللذين يُمكِن أن يخضعا عامّةً للسلطة القائمة أو للمصالح الخاصّة.
• • •

فى حالات الأزمات والكوارث الكبيرة، تضحى تحدّيات عمل مثل هذه الأنظمة السياسيّة من أجل المصلحة العامّة أكثر حديّة، خاصّةً وإن كانت بحجمٍ يتخطّى قدرات الدولة وحدها. فمنِ المسئول عن الشروع وبسرعة بما يُمكِن أن يُخرِج المواطنين والبلاد من هذه الأزمات والكوارث، أكانت نتيجة فعل البشر أم الأقدار؟

هكذا ظهر جليّا عجز النظام البرلمانى اللبنانى أمام الأزمة الماليّة الكبرى التى استفاق عليها فى تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، وهى من أضخم الأزمات على مستوى العالم والتى ما زالت مفاعيلها القاسية تتفاقم على كلّ سكّان لبنان. لم تكُن هذه الأزمة مفاجأةً حينها، لا لجميع قادة الكتل السياسيّة ولا لأغلب النوّاب ولا للقائمين على السلطة التنفيذيّة، بل بدأت مفاعيلها تتبدّى منذ 2016 وجاءت تحذيرات كثيرة من وقوعها الحتمى، حتّى من المؤسّسات الدوليّة الكبرى وإن بشكلٍ خافِت.

من يتحمّل إذا المسئوليّة أنّ لا شىء جاء لتدارك آثار هذه الأزمة منذ 2016؟ علما أنّ كلفتها على البلاد والشعب (وعلى ودائع الناس والمؤسّسات فى المصارف) كان لها أن تكون أقلّ بكثير إذا ما تفجّرت حينها. ومن يتحمّل المسئوليّة عن تدارك آثارها منذ انفجارها فى 2019 وحتّى اليوم؟ فى ظلّ تعطيل البرلمان للسلطة التنفيذيّة كتواجد –من انتخاب رئيسٍ إلى تشكيل حكومة– أو كخطط عمل (من حصر خروج العملة الصعبة إلى خطّة الإنقاذ)؟ وهذا لأكثر من ثلاث سنوات ورغم انتخابات جرت لم تغيّر من التعطيل شيئا.

وواضحٌ الآن أن استمرار هذا العجز يأخذ اللبنانيين والخطاب العام فى البلاد إلى طروحات متطرّفة ومُشرذِمة تهدّد وحدة المجتمع وما بقى من بنية الدولة.

بالمقابل، يُعطى النظام السياسى فى سوريا رئيس الجمهوريّة صلاحيّات مطلقة تنفيذيّة وتشريعيّة. وواضحٌ للعيان أنّ لا وزن كبيرا للمجلس النيابى فى وضع السياسات العامّة، أو حتّى فى اختيار الحكومة.

يُمكِن النقاش طويلا حول أسباب الانتفاضة ثمّ الصراع الذى جرى فى سوريا منذ اثنى عشر عاما. أكانا نتيجة أسبابٍ داخليّة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، ومن ضمنها قضايا غياب الحريّات العامّة، أم فقط أنّها مؤامرات خارجيّة أتت فى سياق ما تمّت تسميته «الربيع العربى». مع أنّ العنصرين كان لهما فعلهما. لكنّ النقاش الأهمّ هو إن كانت السلطة التنفيذيّة قادرة فى بداية الأحداث على اتخاذ خطوات تُجَنّب البلاد ومواطنيها الدخول فى صراعٍ مدمِّر مع ما عاشوه من مآسى خلال هذه السنوات؟ أو إن تمّ استغلال فرصة لمصالحة وطنيّة كبرى فى 2015ــ2016، أى فى مرحلة ما بعد القضاء على داعش كـ«دولة»، كانت قد احتلّت جزءا كبيرا من الأراضى السوريّة؟
• • •

إنّ النقاش الأكثر أهميّةً من كلّ هذا هو اليوم ويخصّ تداعيات الزلزال الكارثى الذى حدث فى تركيا وسوريا فى 6 شباط/فبراير، واضحٌ أنّ آثار الزلزال أكبر من قدرات الدولة التركيّة رغم ضخامتها، وأنّها أكبر بكثيرٍ من قدرات الدولة السوريّة التى أنهكتها سنون الصراع والعقوبات وهيمنة أمراء الحرب، وواضحٌ أيضا أن معظم الدول اللاعبة فى سوريا كانت عاجزة حتّى عن التدخّل لإنقاذ المواطنين العالقين تحت الأنقاض فى مناطق نفوذها، فى بلدٍ قطّعت الحرب والصراعات، فيه وعليه، أوصاله.

أخذ الرئيس التركى، وهو الذى كان قد حوّل النظام السياسى فى بلاده إلى رئاسى، على مسئوليّته كلّ ما يتمّ القيام به لمواجهة الزلزال، اعترافا بالأخطاء وواعدا بما يجب على الدولة القيام به. وهو يأخذ بالتالى مخاطرةً شخصيّة حقيقيّة مع قرب موعد الانتخابات.

بالمقابل، يُمكِن التساؤل ليس فقط إن كانت هكذا مسئوليّة قد أخذت حقّها ليس فقط فى إدارة مرحلة الإنقاذ من الأنقاض وإسعاف المنكوبين فى المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السوريّة؟ بل أيضا وأساسا فى استغلال فرصة كارثة أتت بها الأقدار لفعل كلّ شىءٍ مُمكِن لرأب الصدع بين السوريين فى المناطق التى لا تسيطر عليها الدولة؟ وذلك مهما كانت خطابات هذا الطرف أو ذاك، ومهما كانت التراكمات العميقة التى خلّفتها سنوات الصراع.

لا يُمكِن رمى هذه المسئوليّة على حكومةٍ أو لجانٍ أو دراسات فى نظامٍ رئاسى، خاصّةً فى الحالات الطارئة. ولا يُمكِن رمى الأمور فقط على ندرة الإمكانيّات والعقوبات الخارجيّة، رغم حقيقتها. فها هى الولايات المتحدة المُحرَجة أمام مجتمعها ترفع عقوباتها لأشهر، رغم أنّها ادّعت طويلا أنّ هذه العقوبات هى على الأفراد وأنّ لا أثر لها على الإغاثة وعلى معيشة السوريين.

لقد تدارك المواطنون السوريّون للتعاضد تجاه الكارثة بما يتخطّى خطوط التماس، رغم كلّ تراكمات الصراع ورغم حملات تحريض استمرّت، فى داخل البلاد وخارجها، حتّى خلال الكارثة. هم يعرفون أنّ هذا التعاضد واجبهم ولا يحتاجون إلى من يشكرهم على ذلك. بل سيشكرون يوما من تحمّل مسئوليّاته تجاههم وأخذ المخاطرة الضروريّة على عاتقه ليس فقط لإنقاذهم وإغاثتهم بل لجمع شملهم فى بلدٍ يجب أن تعود له عزّته ورخاؤه. هو ولبنان.
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات