مضت سنوات وسنوات لم نعد نسمع فيها تعبير النقد الذاتى. كان قبل ذلك أحد المناهج السديدة التى يستخدمها الكتاب والمفكرون. وكانت ممارسة النقد الذاتى تجلب على ممارسها قدرا كبيرا من الاحترام والمودة.
وقد لا يستطيع أحد منا أن يخمن عدد السنوات التى مضت ومضى معها استخدام النقد الذاتى فى السياسة والأدب والفنون وحتى فى الفلسفة والعلوم النظرية. ولكن الأمر المؤكد أنه غاب عن الحياة الفكرية كليا حتى ليظن المرء ان أجيال الشباب الحالية لم تمارسه ولم تخض فيه كتجربة ذهنية وأخلاقية فى آن واحد. ما ذكّرنى بالنقد الذاتى نبأ عن تقرير أصدرته منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة يقول باختصار على لسان هذه المنظمة «إن الفقر يهدد أمن العالم»، وأنه يتعين على العالم زيادة إنتاجه الغذائى بنسبة ستين بالمائة هذا اذا أراد العالم أن يتجنب خطر النقص الشديد فى الغذاء بحلول منتصف القرن الحالى. وإلا فإن هذا النقص يمكن أن يثير اضطرابات اجتماعية وحروبا أهلية وزيادة فى الجرائم الإرهابية».
•••
وما أيسر أن نلاحظ هنا أن منظمة الأغذية والزراعة لم تتناول من قريب أو بعيد مسئوليتها عن النقص الذى تعانى منه المواد الغذائية، كما لم تتناول الدور الذى يتعين أن تقوم به لتأكيد نجاح برنامج زيادة الإنتاج الزراعى بهذه النسبة الكبيرة خلال السنوات الخمس والثلاثين القادمة. أى أن المنظمة الدولية لم تمارس أى نوع من النقد الذاتى بشأن الجانب من مسئوليتها عن النقص الحاصل والضرر الذى يمكن أن ينتج عنه فى حالة فشل «العالم» فى زيادة المحاصيل الزراعية التى تشكل فى الأساس مصدر السلع الغذائية التى تعتمد عليها حياة البشر. لقد قال هيرويوكى كونوما المدير العام المساعد لمنظمة الاغذية والزراعة لمنطقة آسيا والمحيط الهادى فى هذا الصدد أن الطلب على الغذاء سيرتفع سريعا خلال العقود القليلة المقبلة مع تجاوز عدد سكان العالم رقم تسعة مليارات نسمة. هكذا أفلت المدير المساعد المذكور من التحدث عن أى مسئولية للمنظمة عما سيجرى خلال السنوات القادمة فى مجال إنتاج الغذاء.
•••
إن منطق الأمور يؤكد أن جانبا من مسئولية هذه المنظمة الدولية يتعلق بالإشراف على عملية إنتاج السلع الغذائية وضبط مؤشرات العمل بما يجعل من الضرورى أن يتم تحقيق الأهداف التى حددها بالأرقام لتجنب النتائج المأساوية التى تنجم فى حالة الفشل فى تحقيق هذه الأهداف. إن البنود التى نص عليها تقرير المنظمة أغفلت تماما عنصر المحاسبة الذى يمليه على منظمة الأغذية والزراعة ما تنص عليه البيانات الأولية لتأسيس المنظمة وتحديد أهدافها. ولو أن المنظمة التزمت بهذه البيانات الأولية لراعت أهدافها التى حددها بيان التأسيس. لكن الأمر المؤكد أن المنظمة سلكت الطريق الأسهل وهو تبيان ما ينبغى أن يكون دون تحديد لمسئولية الأطراف فى المنظمة وفى الأمم المتحدة، المنظمة الأم. وهكذا ضاعت المسئولية، وأصبح الطريق الأيسر لتحديد اهدافها وقدراتها هو الاعتماد على بيانات العلماء والخبراء المتخصصين الذين تستند إلى رأيهم فى إصدار مثل هذا التقرير التحذيرى. إن منظمة الأغذية والزراعة تملك ــ فى ميزانيتها وفى مؤهلات وخبرات العلماء الذين تستعين بهم ــ العوامل الضرورية التى تجعل قيامها بواجباتها الأساسية، ومنها مساعدة الدول المختلفة على النهوض بإنتاجها والوصول به إلى الحدود التى لا تشكل خطرا على أرواح البشر، خاصة فى البلدان الفقيرة.
لا يمكن لعقل نقدى ــ فضلا عن عقل يمارس النقد الذاتى ــ أن يعفى منظمة الأغذية والزراعة من المسئولية. أما إذا كانت المنظمة تعتقد أن مهمتها تنتهى عند حدود مراكمة الأرقام ــ سواء المتعلقة بالإنتاج أو تلك المتعلقة بالأهداف ــ فإن ذلك يتطلب تقليص أعداد الخبراء والعلماء الذين يركزون نشاطهم الذهنى والبحثى على تجميع المواد اللازمة لنشر تقرير يخلو تماما من محاولة ــ مجرد محاولة ــ لتقديم حلول للمشكلات القائمة التى تؤثر على حياة البشر ومصائرهم. نذكر بنوع خاص الأطفال الذين نشاهدهم على شاشات التليفزيون فى أفلام تنفق عليها هذه المنظمة الدولية والمنظمات الأخرى الشبيهة عشرات الملايين من الدولارات لتوصيل «الحقائق» إلى «الناس». أن هذه الأفلام تظهر بجلاء الحالة المأساوية التى يعيش فيها أطفال بلدان العالم الثالث. وهؤلاء هم بالتحديد الذين يشير إليهم تقرير منظمة الأغذية والزراعة فى حديثه عن التهديد الذى يشكل خطرا قاتلا عليهم. وكان الأولى بتقرير المنظمة الدولية أن يحدد الواجبات التى تمليها دراسات علمية صريحة على الباحثين الذين يتقاضون مئات الملايين من الدولارات سنويا.
•••
لو أن منهج النقد الذاتى استخدم فى تناول هذا النوع من التقارير لكان بالإمكان أن يحدث أثرا بالغ الأهمية فى عمل هذه المنظمة الدولية وغيرها. وتصبح الصورة أخطر بما لا يقاس لو أننا تصورنا أن منظمة الصحة العالمية تسلك بذات الطريقة إزاء مشكلات الصحة فى البلدان الفقيرة. وتصبح المسألة أفدح اذا ما تصورنا أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يسلك بالطريقة نفسها معفيا نفسه من المحاسبة مكتفيا بوضع تقارير لا دخل لها بما يمكن للمنظمات الأمنية أن تفعله. وهذا هو على وجه التحديد ما تفعله قرارات مجلس الأمن فى الواقع حين يغيب الدعم المالى والعسكرى من بلدان مثل أمريكا عن كثير من القرارات.
لابد من عودة النقد الذاتى إلى دوره البناء.