السجال الكلامى بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكى باراك أوباما، أو لمزيد من الدقة بين الناطقين بلسانيهما، والذى تضاءل فى الفترة الأخيرة، عاد من جديد إلى العناوين الأولى للصحف، والسبب المباشر لذلك هو الاهتمام بموعد لقاء بين الاثنين. لكن لا مجال للوهم على هذا الصعيد، فالمطروح على جدول الأعمال للبحث موضوعان ننسى أحيانا الارتباط بينهما: المساعدة الأمنية الأمريكية لإسرائيل والعملية السياسية بين إسرائيل وجيرانها.
بعد مرور عامين على دخول مذكرة التفاهم بين الدولتين حيز التنفيذ سنة 2007، بدأت إسرائيل فى الحصول على مساعدة أمنية سنوية تقدر بثلاثة مليارات دولار بالإضافة إلى خطط مساعدة أخرى بينها المساعدة لمنظومة «القبة الحديدية». مدة سريان مفعول المذكرة عشرة أعوام، وفى الفترة الأخيرة بدأت الحكومتان مفاوضات بشأن تجديدها. ووفقا لتقارير مختلفة نشب خلاف بين الطرفين حول حجم المساعدة الجديدة ولم يُحل، لأن الإدارة الأمريكية على ما يبدو حتى الآن، لم تستجب للطلب الإسرائيلى زيادة المساعدة السنوية الأمنية إلى 4 مليارات دولار.
وفى مقابل ذلك جاء فى تقرير نشرته مجلة «وول ستريت جورنال» «مارس 2016»، أن الإدارة تدرس سبلا لاستئناف العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين. ومن بين الأفكار التى طرحت فى نقاشات داخلية فى البيت الأبيض، تبنى قرار يصدر عن مجلس الأمن فى الأمم المتحدة يحدد خطوطا توجيهية لحل النزاع الإسرائيلى – الفلسطينى. وتتطرق هذه الخطوط إلى إقامة دولة فلسطينية على أساس خطوط 1967 وتبادل أراض، مع القدس الشرقية عاصمة لهذه الدولة، والاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودى، وإلغاء حق عودة لاجئين فلسطينيين إلى إسرائيل. ونشر هذا التقرير بأسلوب كان متوقعا فى اليوم الذى بدأ فيه نائب الرئيس الأميركى جو بايدن زيارته إلى إسرائيل.
وبينما يمكننا تفسير موعد نشر النقاشات الداخلية – إذ كان ما نشر صحيحا وكان النشر نتيجة تسريب متعمد ــ بأنه يعود إلى احتكاك إسرائيلى ــ أمريكى متجدد، وإلى الجدل الدائر بشأن حجم المساعدة الأمنية الأمريكية فى العقد القادم الذى يبدأ فى 2019، فإنه من الأكثر صعوبة فهم المنطق فى توقيت النشر على خلفية معركة الانتخابات الرئاسية الدائرة الآن فى الولايات المتحدة والتى ستستمر حتى موعد إغلاق صناديق الاقتراع فى 8 نوفمبر 2016.
فالخطة المقترحة فى المجلة سيستخدمها جميع المرشحين الجمهوريين للدخول فى سجالات مع الإدارة الأمريكية ومع هيلارى كلينتون، التى على ما يبدو ستكون هى مرشحة الحزب الديمقراطى. ويمكن افتراض أن المرشح الديمقراطى الثانى بارنى ساندرز، سيعطى هذه الخطة مباركته. وأن هيلارى كلينتون ستضطر إلى العثور على رد لا يرفض الخطة، لكن فى الوقت عينه لا يبارك الأفكار التى تضمنها المقال والمنسوبة إلى الإدارة الحالية للرئيس أوباما. ويمكن التقدير أنه لو كان الخيار متروكا إلى كلينتون لفضلت تجنب مواجهة مسألة ما إذا كانت تؤيد الخطوط العامة كما نُشرت، لأنها ستكون مطالبة حينئذ بإبداء الرأى فى خطوط محددة تتعلق بمسائل جوهرية فى النزاع الإسرائيلى ــ الفلسطينى، أى الحدود والقدس واللاجئين، وذلك فى كل مواجهة داخل الحزب الديمقراطى ومع المرشحين الجمهوريين. ويمكن افتراض أنها تفضل مبادرة لصدور قرار جديد ومفصل عن مجلس الأمن بعد نوفمبر 2016 وقبل 20 يناير، موعد دخول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض. وهذا ما حدث فى أواسط ديسمبر 1988 عندما فاجأ الرئيس رونالد ريغن وريثه جورج بوش الأب بإعلانه موافقة الإدارة الأمريكية على بدء حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية. وتحول الحوار إلى جزء من سياسة الإدارة الجديدة التى استغلت فى سنة 1991 الانتصار الساحق على العراق بعد غزوه الكويت فى أغسطس سنة 1990، من أجل الدعوة إلى عقد «مؤتمر مدريد» بمشاركة الدول العربية والفلسطينيين وإسرائيل. وأدت هذه العملية بصورة غير مباشرة إلى «اتفاقات أوسلو». وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تقم بأى دور خلال ذلك الجزء «من العملية السلمية»، ومنذ بداية 1993 أصبح فى البيت الأبيض رئيس جديد هو بيل كلينتون، إلا أن التغيير الذى أحدثه الرئيس ريغن فى نهايات عهده، بين الانتخابات وبين يوم خروجه من البيت الأبيض، لعبت دورا مهما فى العملية السلمية.
***
وبما يتجاوز مسألة العلاقة بين مضمون التقرير فى «وول ستريت جورنال» والمعركة الانتخابية فى الولايات المتحدة، والعلاقات بين رئيس الحكومة نتنياهو والرئيس أوباما، ثمة مسألة مطروحة للنقاش، هى إرث الرئيس المنتهية ولايته على صعيد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خصوصا فى الشرق الأوسط. لم يكن الرئيس أوباما هو الذى قرر إدخال الجيش الأمريكى إلى أفغانستان والعراق، لكنه هو الذى قرر إخراجه من هذه المناطق من دون أى انتصار أمريكى واضح. وليس هو الذى تسبب باندلاع «الربيع العربى»، لكنه هو الذى قرر عدم استخدام الولايات المتحدة كامل قوتها لوقف سفك الدماء فى أنحاء الشرق الأوسط وخاصة فى سوريا. وتتباين الآراء، وخصوصا فى إسرائيل، بشأن طبيعة التسوية للمسألة النووية الإيرانية ومدى ديمومتها.
كثيرون انتقدوا الرئيس بسبب أخطاء كانت أكثر من مجرد أخطاء تكتيكية، ارتكبها خلال محاولته الدفع قدما بحل النزاع الإسرائيليــ الفلسطينى. وكثيرون ينتقدونه ومن المتوقع أن ينتقدوه فى المستقبل، عندما سيحللون سلوكه حيال هذه المسألة المحددة، وبسبب السلبية التى أظهرها خلال فترة ولايته الثانية فى الفترة الممتدة بين 2013 و2016. فهل من المحتمل أن تكون هذه هى الاعتبارات التى توجه الرئيس أو وزير خارجيته جون كيرى عندما يتحدثان عن استئناف العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين؟
إذا كان هدف الأمريكيين استئناف المفاوضات، فيمكن افتراض أن تبنى قرار ما لن يحقق هذا الهدف فى الفترة الحالية، وربما يدفع إسرائيل والفلسطينيين إلى زيادة تخندقهم وتمسكهم برفضهم الدخول فى مفاوضات لا تلبى الشروط التى وضعوها. إن تبنى قرار صادر عن مجلس الأمن وفق الخطوط التى تحدثت عنها الصحف الأمريكية له مزايا، لأنه سيشكل نوعا من خط استهلالى واضح لأى مفاوضات مستقبلية. لكن من ناحية أخرى، ليس فى إمكان قرار من هذا النوع المحافظة بصورة فعالة على خيار الدولتين، وستبقى للطرفين حرية اتخاذ خطوات شكلية وعملية من الممكن أن تؤدى إلى إفشال مفاوضات وفق الخطة التى يجرى الكلام عنها.
إذا كان الرئيس أوباما يريد أن يدخل صفحات التاريخ بصفته من بادر إلى إصدار قرار عن مجلس الأمن بشأن تسوية إسرائيليةــ فلسطينية، فثمة شك فى أن هناك ما يمكن أن يغير قراره هذا. أما إذا كان الرئيس ما يزال فى مرحلة النقاش ولم يحسم أمره، فثمة مجال لمبادرة سياسية من جانب إسرائيل، تستند إلى مجموعة تصريحات وخطوات عملية. وفى المقابل من الضرورى تجنب اغراء استخدام المرشحين الجمهوريين من أجل الدخول فى مماحكة مع الرئيس.
ويمكن أن تتضمن المبادرة الإسرائيلية البنود التالية:
1ــ استعداد للبحث مستقبلا فى اتفاق يستند إلى خطوط 1967 وإلى اعتبارات أمنية ديموغرافية، وأيضا تقدير إمكان قيام دولة فلسطينية.
2ــ تأييد أمريكى للمطالبة الإسرائيلية بأن تكون إحدى نتائج المفاوضات اعترافا فلسطينيا رسميا بدولة إسرائيل بصفتها دولة الشعب اليهودى.
3ــ الاستعداد فى إطار مفاوضات مستقبلية لتفحص حلول سياسية لموضوع القدس تتفق مع علاقة الشعب اليهودى بالمدينة.
4ــ إعلان تجميد البناء وخطط البناء فى الضفة الغربية وما وراء الجدار الأمنى وفى الأحياء غير اليهودية فى القدس.
5ــ الاستعداد للبحث مع الطرف الفلسطينى فى خطط اقتصادية فلسطينية فى المنطقة ج.
6ــ الاستعداد لمفاوضات فورية على اتفاقات جديدة فى مجالى المياه والطاقة، والتطبيق الكامل للاتفاقات الاقتصادية القائمة بين الطرفين ــ سواء تلك المتعلقة بيهودا والسامرة «الضفة الغربية» أو قطاع غزة.
يتعين على إسرائيل أن تطلب، حتى لو لم تطرح مبادرة على جدول الأعمال، وبالتأكيد إذا تبنت ولو أجزاء منها، ألا تفاجئها الولايات المتحدة بمبادرات سياسية لها انعكاسات وجودية على إسرائيل. وإذا طرحت إسرائيل مبادرة سياسية شاملة مثل تلك التى اقترحناها، سيكون على الرئيس أوباما «الذى ليس من الواضح من سيأتى بعده، كما انه ليس من الواضح من سيسيطر على الكونغرس) أن يشرح لجمهور الناخبين الأميركيين لماذا تجاهل المبادرة الإسرائيلية واختار أن يفرض على إسرائيل «وعلى الفلسطينيين أيضا» قرارا يتناقض مع سياسة حكومتها وأغلبية أعضاء الكنيست.
***
لا نريد أن نطيل الكلام عن المبادرة الفرنسية لتحريك العملية السياسية التى أساسها عقد مؤتمر دولى قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة الصيف المقبل. إن الجوانب التقنية لهذا المؤتمر وخاصة أهدافه السياسية ستكون موضع خلاف قبل انعقاده. ومن المنتظر أن يقدم الطرفان الإسرائيلى والفلسطينى شروطا مسبقة ويطالبان بضمانات مسبقة قبل موافقتهما على المشاركة فى المؤتمر المقترح، وبذلك سيقلصان من فرص انعقاده.
يبدو أن الإدارة المنتهية ولايتها للرئيس أوباما مصرة على أن تترك بصماتها على الحل المستقبلى للنزاع الإسرائيلى- الفلسطينى، وهى أمام اتخاذ قرار بشأن التوجه الذى يجب أن تسير فيه من أجل تحقيق ما تخطط له قرار صادر عن مجلس الأمن فى الأمم المتحدة، أو نشر خطة خاصة مثل الأطر التى وضعها الرئيس كلينتون فى ديسمبر 2000 «والتى هى أيضا نشرت فى الوقت الضبابى بين الانتخابات الرئاسية ودخول الرئيس الجديد المنتخب جورح بوش الابن إلى البيت الأبيض». وفى مثل هذه الحال، يتعين على إسرائيل أن تقرر كيف يمكنها التأثير على هذه الخطة وتقريبها قدر الإمكان من رؤيتها لحل الدولتين لشعبين.
ــ باحث فى معهد دراسات الأمن القومى
«مباط عال»
نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية