التناص - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 11:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التناص

نشر فى : الأحد 19 أبريل 2009 - 8:10 م | آخر تحديث : الإثنين 20 أبريل 2009 - 12:14 م
تعد جوليا كريستيفا أول من استخدم مصطلح التناص عام 1966 بمعنى (التداخل النصى) أى الوجود اللغوى سواء كان نسبيا أو كاملا أو ناقصا لنص فى نص آخر، وقد اتسع مفهوم المصطلح فى تطوره ليصل على يد جيرار جينيت إلى (التعالى النصى) الذى يتمثل فى معرفة كل ما يجعل النص فى علاقة خفية أم جلية، مع غيره من النصوص.

وإذا نظرنا إلى التناص من زاوية المبدع فسنجد هارولد بلوم يقول: إن الكاتب فى حالة دائمة من الكتابة (مع) أو (ضد) إنتاج سبقه، وهنا نجد أصوات الآخرين تسكن خطابه. أما فوكو فيقول عندما يعبر شخص عن أفكاره بكلمات لا يسيطر عليها، أو بصيغ كلامية تخفى عليه أبعادها التاريخية، يظن أن أقواله تطيعه، فيما هو الذى يخضع لمقتضياتها.

ويمكننا أن نرصد ــ على سبيل المثال ــ ثلاثة مستويات للتناص بين شعر العامية وشعر الفصحى، تؤكد التراسل الإبداعى بين الشعراء، وأن الشعرية ذاتها هى القيمة الرئيسية والإطار الجامع لهم، بغض النظر عن اللغة المستخدمة فى الكتابة.

يتمثل النوع الأول فى تضمين جزء من النص الفصيح داخل النص العامى، حيث يقول صلاح جاهين:

أحسنت فى القــول يا واد يا متنبى
جبت اللى جوه الفؤاد عن مصر متعبى
وحكمت بالعدل لكن بعضـنا انظلموا
«يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ»

فقد استحضر صلاح جاهين الشاعر القديم نفسه أولا بتعيين اسمه المسبوق بأداة النداء (يا متنبى)، وأدخله فى السياق الشعبى كأنه شخص مألوف ومعاصر لنا عبر النداء العامى السابق لاسمه (يا واد).

كما أنه قد مهد لنصف البيت الفصيح ذاته عبر محورين: الأول دلالى؛ يتمثل فى شرح موقفه المعجب بالمعنى الوارد فى نص المتنبى المقتبس(أحسنت-جبت اللى جوه الفؤاد ــ حكمت بالعدل)؛ والآخر صوتى، يتمثل فى اشتراك البيت العامى السابق على التضمين مباشرة مع نص المتنبى الفصيح فى القافية (اتظلموا ــ الأممُ).

وبهذا صار الشاعر القديم معاصرا وصار النص الفصيح جزءا مندمجا فى النص العامى، يصعب فصله عنه لولا علامات التنصيص.
أما النوع الثانى فيتمثل فى إعادة صياغة معانى الأبيات الفصيحة ــ وبخاصة تلك التى تحمل أفكارا فلسفية ــ فى إطار عامى، ففؤاد قاعود يقول:

زغاريد دى ولا صوات ما دلونى
ونزلت أجرى بهمة وعناية
لقيتنى ناسى هما بعتونى
لجل الحانوتى ولا للداية

والأمر لا يتعلق هنا بقصور لدى الشاعر العامى عن إبداع المعانى الجديدة، لكنه يتعلق بإعجابه الشديد بالمعنى الوارد لدى أبى العلاء فى قوله:

غيرُ مُجْدٍ فى ملتى واعتقادى نــوح باكٍ ولا ترنم شادى
وشـبيهٌ صـوت النعىِّ إذا قيس بصوت البشير فى كل نادى

ورغبته فى نقل هذا المعنى فى ثوب فنى جديد إلى عامة القراء، فقد استبدل الشاعر الكلمات العامية بمرادفها الفصيح فى بيت أبى العلاء الأول: «الصوات» بالنواح، و«الزغاريد» بالترنم، ثم حول «صوت النعى» و«صوت البشير» فى البيت الثانى من النص الفصيح إلى شخصيات شعبية حية، تعد نموذجا فى الوعى المعاصر للحزن والفرح «الحانوتى» و«الداية»، وبهذا تجسد المعنى وصار واضحا لغة ومفهوما.

أما النوع الثالث فيتمثل فى إدخال تعديلات جوهرية على النص الفصيح المقتبس، تعكس تطور الرؤية المعاصرة. ففؤاد قاعود ــ وهو أكثر شعراء العامية ولعا بتوظيف التراث الشعرى الفصيح بأشكاله المختلفة ــ يقول:

فى مدخل الشتا
تتزاحم الصور على سن القلم
كأنها الطيور
أهش منها اللى أهشه خارج الورق
واللى ارتطم فى القلم يخلق سطور

فبمقارنة الأبيات السابقة مع قول امرئ القيس:
أذود القوافى عنى ذيادا ذياد غــلامٍ جـرئٍ جــرادا
فلما كثرن وأعيينه تخيرت منهن شـتا جــيادا
فأعزل مـرجانها جانبا وآخذ من دُرِّها المستجادا

سنكتشف أن الإطار العام للصورة الكلية واحد فى النصين العامى والفصيح، وأن كلا الشاعرين يتحدث عن تدفق موهبته فى لحظة الإبداع من منظور الاهتمامات الفنية للشعرية التى عاصرها.

ففى مقابل اهتمام امرئ القيس الشاعر العامودى بالقوافى نجد اهتمام فؤاد قاعود شاعر التفعيلة بالصور، وفى مقابل صورة امرئ القيس الجاهلية التى تتحدث عن القتال والذود تأتى صورة فؤاد قاعود المعاصرة التى تتحدث عن الطيور والهش، وفى مقابل المعيار اللفظى الشكلى الذى يعتمد عليه امرؤ القيس فى المفاضلة بين القوافى تجد اعتماد فؤاد قاعود على المعيار العاطفى الوجدانى فى المفاضلة بين الصور.

وإذا كان من الواضح أن صلاح جاهين فى المثال الأول واعيا بتضمين نص المتنبى الذى وضعه بين علامتى تنصيص، فإن فؤاد قاعود قد دُهِشَ عندما أوضحت له فى مناقشة خاصة علاقة نصه بنص امرئ القيس، وهكذا فإن التناص قد يكون واعيا ومقصودا من المؤلف، وقد يكون خفيا ومحلقا تقع مهمة اكتشافه على المتلقى.

التعليقات