هو رجل يعرف ما يريد ويتحرك تحت سقف «خيارات استراتيجية» تجمعه إلى دول غربية محورية أخرى فى النظر إلى الأدوار المصرية بأية ترتيبات إقليمية مقبلة.
ما هو اقتصادى تصدر زيارته المثيرة فى توقيتها غير أنه لا يلخص كل أهدافها.
وما هو حقوقى برز على نحو استثنائى فى مداخلاته المتعددة غير أنه ليس موضوع الزيارة ولا يحتل أولوية متقدمة.
شىء ما فى خلفية المسرح أهم من كل ما بدا على مقدمته من مد يد التعاون الاقتصادى إلى حدود غير مسبوقة فى العلاقات بين البلدين.
الاستثمار الاقتصادى هو استثمار استراتيجى فى الموقع الجغرافى الذى لا يمكن الاستغناء عنه.
هذه حقيقة لا يصح نسيانها فى زخم الاتفاقيات والمشروعات الاقتصادية التى صاحبت زيارة الرئيس الفرنسى «فرانسوا أولاند».
فى لقاء امتد لنحو ساعة مع ست شخصيات مصرية «غير رسمية» تبدت فى كلماته رهانات لا لبس فيها.
تحدث على راحته بلا قيود تقتضيها الاجتماعات الرسمية عن أسبابه دون إسهاب أو تزيد.
رغم الإجراءات الأمنية المشددة فى الخارج بدا كل شىء منسابا فى بيت السفير الفرنسى، الرئيس يتحرك بلا حراسة ويمازح أصدقاءه بلا حواجز والهواتف الجوالة تستخدم بلا تحرج.
«مصر بلد أساسى واستقراره ضرورى للعالم».
كانت تلك الجملة المفتاح فى حديثه كله.
«إذا لم نسلحها بأحدث الأسلحة فإننا نخون قضيتنا فى الحرب على الإرهاب».
على نحو قاطع نفى أن تكون الاتفاقيات والمشروعات الاقتصادية وصفقات السلاح المتقدم من طائرات «الرفال» وحاملة الهليكوبتر «ميسترال» والفرقاطة «فريم» نوعا من المقايضة السياسية على سجل حقوق الإنسان والحريات العامة فى مصر، فهذه مسألة قيم إنسانية تلتزم بها فرنسا فى إدارة سياستها الخارجية يتابعها الرأى العام فى بلاده ويحاسب عليها.
بدا لقاء «أولاند»، المقتطع من جدول أعماله المتخم، رسالة إلى الفرنسيين قبل المصريين أنه لم يجىء للقاهرة لأية مساومة على أية قيمة إنسانية.
فى صلب الرسالة إدراك بتدهور السجل المصرى فى حقوق الإنسان إلى درجة قد تؤثر على شعبيته، وهو رجل لا تنقصه الأزمات التى تعصف بفرصه فى تجديد رئاسته.
تدهور الصورة إلى هذا الحد جرس إنذار لا يصح صم الآذان عن دويه ويستدعى تصحيحا لا مكابرة.
بكلماته: «فى كل مكان ذهبت إليه من المؤتمر الصحفى مع الرئيس السيسى والاجتماعات المغلقة بيننا إلى مجلس النواب ومنتدى مجلس الأعمال المصرى الفرنسى، تحدثت عن حقوق الإنسان وأهميتها فى الحرب على الإرهاب».
نفس الدرجة من الحرج اعترضت نائب المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» فى زيارته القاهرية، حيث لم يجد مفرا من أن يسجل وسط الاتفاقيات الاقتصادية التى وقعها شعوره بالقلق من انتهاكات حقوق الإنسان.
فى محاولة لتخفيف وطأة الإحراج أمام الرأى العام فى بلاده، أكد الرئيس الفرنسى مرة بعد أخرى، أن اعتبارات الحرب مع الإرهاب لا تناقض الحقوق والحريات العامة.
بدت تلك نصيحة للقاهرة حتى تحسن صورتها فى عالمها ويكون مجتمعها أكثر تماسكا أمام الأخطار المحدقة فـ«العالم لا يحتمل انهيارا مصريا».
وفق «أولاند» فإن بعض الفرنسيين يفضلون عند دوى التفجيرات فرض «الطوارئ» حيث تعطيهم شعورا بالأمان غير أن ذلك ليس خيارا صحيحا دائما.
بصياغة أخرى: «القانون العادى هو أفضل خيار ممكن».
الحاجة إلى إصلاح الجهاز الأمنى ضمن إصلاحات أخرى تشمل الجهاز الحكومى ومؤسسة العدالة وفق القيم الدستورية، كانت أحد العناوين الرئيسية فى حوار الساعة مع الرئيس الفرنسى.
بتعبيره: «لا يوجد جهاز أمنى واحد بالعالم سمعته طيبة غير أن الفارق بين دولة وأخرى فى آليات الرقابة والمتابعة والتصحيح».
بسبب سوء سمعة الجهاز الأمنى المصرى لاحقته الاتهامات بالضلوع فى مقتل الباحث الإيطالى «جوليو ريجينى».
وبسبب تدهور السجل الحقوقى كادت أن تكون مصدقة تماما.
بتوقع ما قد تتراجع قضية «ريجينى» فى الأسابيع المقبلة أو على الأقل يتوقف تصعيدها لاعتبارات استراتيجية تتعلق بالمصالح الغربية الكبرى قبل أى اعتبارات أخرى.
غير أن من مصلحة مصر إجلاء الحقيقة بكل شفافية وحزم أيا كانت درجة التراجع فى الضغوطات عليها انحيازا لحقها فى تأسيس دولة قانون.
فضلا عن أن هذه مسألة ضرورية للسياحة وفرص استعادة زخمها فى أى مدى منظور.
بتعبير الرئيس الفرنسى: «نأمل فى عودة السياحة الفرنسية إلى مصر بأقرب وقت».
غير أن لكل شىء أصوله.
من الاشتراطات التى طلبها «توافر الأمن اللازم لحماية السياح الأجانب».
«نحن أيضا نعانى من تراجع معدلات السياحة بصورة فادحة بعد العمليات الإرهابية التى هزت باريس».
و«هذه أزمة نحاول أن نتغلب عليها دون مساس بالحريات العامة وحقوق الإنسان».
بشىء من المودة فى لقاء «غير رسمى» قال: «نحن نضع علامات ملونة على خريطة العالم للمناطق الخطرة التى نحذر السياح من الذهاب إليها، كل يوم تتسع رقعة الألوان حتى كدت أخشى ألا نجد مكانا فى العالم نذهب إليه».
«أكثر ما لفت انتباهى فى ردات الفعل على الأعمال الإرهابية أن الأكثر ثراء كانوا الأشد فزعا».. «يبدو أن حياتهم غالية بقدر ثرواتهم».
العبارة الأخيرة تتسق مع انحيازاته الفكرية ككادر سياسى اكتسب خبراته فى صفوف الحزب الاشتراكى الفرنسى.
فى مداخلاته بدا مقتضبا ومحددا وواضحا بأثر تدريبه السياسى الطويل.
لم يكن فى حاجة لمن يلفت انتباهه إلى تنوع مشارب وتوجهات محاوريه فى الاقتراب من الأوضاع الداخلية المصرية.
«رغم ما يبدو من توافق عام على ضرورة إصلاح سجل حقوق الإنسان أجد أمامى تنوعا سياسيا هو شهادة للمجتمع المصرى»
بصيغة أخرى تعكس قوة رهاناته: «إذا لم تنجح مصر فمن ينجح فى المنطقة؟».
الرهانات الفرنسية تقف على قاعدة صلبة من الخيارات الاستراتيجية.
هناك شىء ما يطبخ على نار هادئة لصورة الإقليم بعد الحرب السورية من مقدماتها ترسيم الحدود المصرية السعودية.
ورغم أن الرئيس الفرنسى لم يتطرق للملفات الإقليمية المشتعلة إلا أن زيارته تمهد لشىء ما يجرى فى الظلال فى ترتيبات الإقليم وحسابات القوة فيه.
كما تقف الرهانات الفرنسية على قاعدة صلبة أخرى من المصالح الاقتصادية تستثمر فى العالم العربى والقارة الأفريقية من البوابة المصرية.
بالإضافة إلى لغة المصالح وحسابات الاستراتيجيات فهناك مشتركات ثقافية توطد الصلات بين البلدين العريقين.
لم يخف «أولاند» ولعه بالحضارة المصرية القديمة.
كان لافتا حضور شخصيتين ثقافيتين فرنسيتين كبيرتين اللقاء المثير فى توقيته.
الأول، «جاك لانج» وزير الثقافة الفرنسى الأشهر والرئيس الحالى لمعهد العالم العربى فى باريس.
بدت فى الطريقة التى قدمه بها الرئيس كمثقف تجاوزت شهرته بلده أنهما صديقان حميمان تربطهما علاقات قديمة.
الثانية، «أودرى أزولاى» وزيرة الثقافة الحالية، وهى يهودية مغربية الأصل عمل والدها مستشارا للملكين «الحسن الثانى» و«محمد السادس».
رغم أهمية العمق الثقافى فإن المصالح الاستراتيجية التى ترتب فى الظلال أساس اللعبة كلها.