بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ازدادت المخاطر المحيطة بأمن الطاقة المستدامة كما برزت خلافات طاقوية ضخمة فى أوروبا. فى ضوء ذلك، نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب وليد خدورى، تحدث فيه عن كيفية مواجهة هذه التحديات... نعرض من المقال ما يلى:
طرأت تغييرات مهمة فى قطاع الطاقة العالمى خلال العامين الماضيين، مما أدى إلى إعادة التفكير بالعديد من المفاهيم والسياسات المتبناة سابقا من قبل أوساط غربية كثيرة حول الأدوار الجيوسياسية الناتجة عن التحول إلى الطاقة الخضراء.
تطرق إلى هذا الأمر أخيرا اثنان من كبار الكتاب الأمريكيين فى شئون الطاقة، فى مقال بعنوان «عصر الطاقة غير الآمنة» فى دورية «فورين أفيرز» الأمريكية، هما: جاسون بوردوف، مؤسس ومدير «مركز سياسات الطاقة العالمية» فى جامعة كولومبيا، مسئول سابقا عن متغيرات الطاقة والمناخ فى مجلس الأمن القومى للبيت الأبيض فى عهد الرئيس باراك أوباما، وميجن أوسيلفان، أستاذة العلاقات الدولية فى «مدرسة جون كيندى» فى جامعة هارفارد.
كانت هناك طموحات فى الأوساط العالمية أن يحقق الانتقال إلى مصادر طاقة مستدامة عالما جديدا «نظيفا» و«تحديات سياسية» معتدلة، متفاديا النزاعات السابقة، لكن طرأت تحولات جذرية فى قطاع الطاقة منذ خريف عام 2021 سرعت فى التحولات، كأزمة الطاقة الأوروبية التى أدت إلى ارتفاع سريع وعالٍ لأسعار الغاز، الذى انعكس بدوره على أسعار النفط الخام.
شكل الغزو الروسى لأوكرانيا السبب الرئيس لرسم حد فاصل فى مرحلة تحول الطاقة؛ إذ أنهت الحرب الأوكرانية «النظرات الوهمية» للتخلص من مفاهيم «أمن الطاقة السابقة»؛ أذ دلت التجربة الأوكرانية، بحسب المقال، على أنه من الصعب الاستغناء عن البترول فى سلة الطاقة المستقبلية. كما دل التهافت الأوروبى السريع وغير المنسق للحصول بأسرع فترة ممكنة على بدائل عن البترول الروسى، الذى تم حظره دون دراسة وافية، على اضطرابات فى موازين الطاقة الأوروبية.
بحسب بوردوف وأوسيلفان، فإن معنى أمن الطاقة تاريخيا هو: «توافر إمدادات وافية من الطاقة بأسعار معتدلة»، لكنهما يضيفان فى نفس الوقت أن «هذا التعريف غير واقعى حاليا، فمخاطر الأمن الآن أكثر تعقيدا وخطورة من السابق». والحقيقة أن نظام طاقة دون أمن أو بأمن مضطرب معناه ارتفاع أسعار الطاقة.
لذا، ومن أجل مواجهة التحديات الجديدة، يقترح الكاتبان: توجب على صناع السياسة إعادة تعريف معنى أمن الطاقة وتطوير تعابير وصيغ جديدة لتأمين التعامل مع الأوضاع الجديدة. هذا يعنى بنظريهما تبنى أربع طرق للتعامل مع المرحلة المستقبلية: تنويع مصادر الطاقة، والمرونة فى استعمال وسائل الطاقة، والاندماجية بمعنى إزالة العوائق للاستعمالات المتعددة للمكائن والإمدادات، والشفافية. هذا يعنى أنه يتوجب على السياسيين عند رسم سياسات الطاقة المستقبلية الأخذ بنظر الاعتبار دور البترول، بالذات ذلك المعالج منه بعد التخلص من أكبر كمية ممكنة من انبعاثات الكربون فيه.
• • •
مما يتوجب أخذه بنظر الاعتبار أيضا، هو المتغيرات فى النظام السياسى العالمى: الإقليمى والدولى. فقد برزت قوى إقليمية مهمة، السعودية وإيران فى الشرق الأوسط، وكتلة «بريكس» الاقتصادية دوليا. كما أصبح النظام العالمى متعدد الأقطاب، غربا وشرقا، وضمن كل منهما، وتوسعت الخلافات ما بين «المعسكرين»، وحتى فى داخل كل منهما.
فأوروبا غير مرتاحة لزيادة اعتمادها «الاستراتيجى» على الولايات المتحدة، بالذات لمدى وارداتها من الغاز المسال الأمريكى، أو إلى الحل العسكرى للحرب الأوكرانية. ودول أوروبا الشرقية تتخوف من موسكو، وتعاديها.
كما هناك خلافات طاقوية ضخمة ضمن المجموعة الأوروبية. وهذا واضح فى مداولات أعضاء السوق الأوروبية لسياساتهم الطاقوية المستقبلية. تبنت السوق الأوروبية قبل حرب أوكرانيا سياسة مشتركة وواضحة، مفادها الإسراع فى مكافحة تغير المناخ بقدر الإمكان، أما الآن فهناك تنافس حاد ما بين ألمانيا وفرنسا حول متى يتوجب منع مبيعات سيارة محرك الاحتراق الداخلى. واستطاعت ألمانيا أخيرا تأجيل قرار للبرلمان الأوروبى بفرض منع مبيعات سيارة محرك الاحتراق الداخلى بحلول عام 2035، كما صوت عليه البرلمان سابقا وساندته فرنسا بحماس. فقد استطاعت برلين تأجيل تنفيذ القرار حتى عام 2050. وتمتد خلافات الدولتين الأوروبيتين الكبريين وحلفاء كل منهما حول استعمال الطاقة النووية، كما تطالب فرنسا وترفض ألمانيا ضم الطاقة النووية لسلة الطاقة المستقبلية.
أما فى الولايات المتحدة، فهناك انقسام أفقى فى الرأى العام الأمريكى. فبعد أن كانت سياسات الحزبين «الجمهورى» و«الديمقراطى» متشابهة تقريبا طوال النصف الثانى للقرن العشرين، أخذ يتوسع الخلاف بينهما ليأخذ اختلافات عقائدية وصراعات عنيفة. وما الهجوم التاريخى لأنصار الرئيس السابق دونالد ترامب على مبنى «الكونجرس» إلا مثال على ذلك، كما الخلافات المستمرة حول سياسات مكافحة تغير المناخ؛ إذ سحب الرئيس ترامب عضوية بلاده من اتفاقية «باريس للمناخ»، وأيضا الاعتداءات والقتل الجماعى المستمر فى المدارس للإصرار على الحق الدستورى لحمل السلاح.
فى نفس الوقت، تختلف الأولويات ما بين القطبين الشرقيين؛ إذ إن بكين تدعو إلى مفاوضات سلمية لإنهاء حرب أوكرانيا، فى حين موسكو مُصرّة على استعادة الأراضى فى شرق أوكرانيا التى يقطنها الروس. وهذا طبعا، فى حين أن المصالح الأمنية الكبرى للصين هى التأكيد على سيادتها لكل من هونغ كونغ وتايوان. هذه السياسة التى أخذت تشكل خلافا أساسيا ما بين واشنطن وبكين بالكلام العلنى عن إمكانية فرض حصار صينى اقتصادى على تايوان، وتزايد المناورات البحرية والجوية حول تايوان. كما من الواضح أيضا، أن أولوية الصين هى دعم ونجاح سياستها الاقتصادية داخليا ودوليا. فالصين تعتمد فى نموها الاقتصادى الباهر على تطوير نظام اقتصاد حر بقيادة «الحزب الشيوعي» الصينى، واستطاعت بقيادة الرئيس شى جينبينغ أن تصبح ثانى أكبر اقتصاد عالمى. والصادرات الصينية موجودة بوفرة فى الأسواق العالمية.
كما أن تحول الغرب إلى الطاقات المستدامة سيعنى اعتمادا أوسع على الصين، بدلا من روسيا؛ إذ إن معظم المواد الأولية والسلع المستعملة فى صناعات الطاقة المستدامة تستورد من الصين، ناهيك عن السلع الاستهلاكية الإلكترونية والتقليدية. أما روسيا، فصادراتها الأساسية هى البترول والأسلحة؛ إذ بالكاد يعثر المستهلك العالمى على بضاعة روسية فى الأسواق.
لقد أدى الاعتماد على الصين إلى خلافات داخل القطب الأوروبى، وضغوط إضافية من الولايات المتحدة على الأقطار الأوروبية؛ إذ لا ترغب واشنطن فى الاستبدال بالاعتماد الأوروبى على البترول الروسى، الاعتماد على السلع الصينية فى تطوير الطاقات المستدامة.
• • •
لقد أبرزت الحرب الأوكرانية خلافا أساسيا ما بين الشرق والغرب. فقد بدأت مرحلة سياسية جديدة وخطرة تختلف عن تلك التى نشأت عقب سقوط الاتحاد السوفياتى. فالعالم اليوم ليس فقط فى خضم «حرب باردة»، بل «حرب يلوح باستعمال الأسلحة النووية فيها»، ناهيك عن «حرب إمدادات الثروة الطبيعية». فالدول الكبرى لا تنفذ التزاماتها لتعويض دول العالم الثالث عن الأضرار التى لحقت بهم بسبب تغير المناخ.