قضيت ثلاثة أيام فى لبنان وثلاثة أخرى فى دبى كانت جميعها حافلة بكثير من عناصر الإثارة والحماسة. كان وراء الإثارة والحماسة فى الأيام الأولى التغييرات التى ساهم فى إدخالها الوزير نبيل العربى على سياسة مصر الخارجية، وكان وراءها فى الأيام التالية القرار، الذى اتخذه مجلس جامعة الدول العربية على مستوى الوزراء باختيار الوزير المصرى صاحب التغيير أمينا عاما.
●●●
دار نقاش، على هامش جلسة مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية فى بيروت، حول سياسة مصر الخارجية، وكان وزير الخارجية المصرى ما يزال فى منصبه. اتضح منذ بداية النقاش أن عددا كبيرا من أعضاء المجلس يعرفون الوزير المصرى معرفة جيدة. منهم من كان جارا له فى نيويورك وجنيف ولاهاى. ومنهم من عمل معه فى لجنة أو أخرى من لجان الأمم المتحدة. همس فى أذنى أحد المشاركين بأنه وآخرين لجأوا إليه فى استشارة قانونية تتعلق بتصويت على مشروع قرار فى مجلس الأمن أو فى مفاوضات جارية مع الأمريكيين والإسرائيليين. وكلهم تابعوا بكل الاهتمام الدور الذى قام به فى الإعداد للحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية فى شأن الجدار الملعون الذى شيدته إسرائيل.
وعلى امتداد النقاش لم يحدث أن فصل أحد المشاركين بين السياسة الخارجية التى تنتهجها مصر فى الوقت الراهن وبين شخص نبيل العربى. قال أحدهم إن الاثنين وجهان لعملة واحدة وهى الوطنية المصرية. وأضاف أنه يذكر أنه قرأ فى الصحف المصرية وفى «الشروق» تحديدا كتابات تشرح رؤيته للسياسة الخارجية لمصر كما يجب أن تكون، وهى السياسة التى بدأ بالفعل ينفذها فور تعيينه وزيرا.
بعد الاجتماع سنحت الفرصة للالتقاء بعدد من السياسيين والمحللين اللبنانيين. سمعت منهم ما يزيدنى اقتناعا بأن مصر التى غابت عن الفعل فى لبنان وغيره عادت تظهر بملامح مختلفة عن كل ملامحها التى عرفت بها. مصر عات هادئة ورصينة إلى ساحات فى المشرق يسودها التفاؤل وإن شابه القلق. تحركت مصر وبمجرد أن تحركت ساد الشعور بأن أشياء كثيرة فى المشرق تتغير ليس أقلها شأنا علاقات الشعوب بحكامها وبعضها البعض. قيل لى بنبرة واضحة عدنا لنرى الشعوب العربية تتصرف كأمة واحدة لا تنتظر توجيهات من حاكم أو حزب.
●●●
منذ اللحظة التى دخلت فيها إلى مطار دبى والسؤال عن أسباب ترشيح مصر وزير خارجيتها أمينا عاما يطاردنى. لم أسمع الخبر قبل أن أستقل الطائرة الإماراتية من مطار رفيق الحريرى فى بيروت. سمعته فى الطائرة وكان السؤال عن الأسباب ينتظرنى فى مطار دبى. ومنذ تلك الساعة لم أقابل صديقا بين مئات محتشدين فى المؤتمر السنوى للإعلام العربى إلا وأعرب عن خيبة أمله. وفى الوقت كانت تقارير قد بدأت تصلنى من مكتبى بالقاهرة تعرض أهم ما تناقلته رسائل منقولة عبر وسائط الاتصال الإلكترونى وبخاصة الفيس بوك والتويتر، وهالنى رد فعل المتراسلين لرحيل الوزير العربى من وزارة الخارجية وانتخابه أمينا عاما.
لعلها المرة الأولى، التى يجتمع فيها رأى الناس وبخاصة الشباب على التمسك بوزير أو رجل دولة لا لميزة خارقة فى الشكل والعمر أو لقدرة فائقة على صنع شعبية زائفة ولكن لسياسة صريحة وجريئة أعلنها وتمسك بها رغم قسوة الضغوط الخارجية التى عارضتها.
●●●
كيف جاء رد فعل الرأى العام فى مصر وخارجها على انتقال الدكتور نبيل العربى من الخارجية إلى الجامعة العربية على هذا النحو وبهذه التلقائية والسرعة؟ سيكون صعبا تحسس نوايا قطاعات واسعة أعربت عن استيائها، ولكنى استمعت إلى اجتهادات شتى ناقشت مغزى ما حدث أوجز أهمها فى النقاط التالية:
أولا: يأتى هذا الموقف ليؤكد ضعف الثقة فى بعض الأنظمة الحاكمة. يردد كثير من الشباب شكوكا متداولة عن ضغوط مارستها أنظمة حاكمة على حكومة مصر لتسرع بترشيح وزير خارجيتها لمنصب الأمين العام. هدف هذه الحكومات والقوى الأجنبية منع مصر من الاستمرار فى السياسة الخارجية، التى انتهجها الوزير العربى. يخشى المتشككون أن تكون الموافقة المصرية تعنى استعدادها لرفض هذه السياسة. يدللون أيضا على شكوكهم بالسرعة المبالغ فيها فى شغل المنصب، الذى يخلو بخروج عمرو موسى بينما كان ممكنا وقانونيا تعيين أقدم مساعديه، وهو أحمد بن حلى كما حدث عندما عينت القمة الأمين المساعد أسعد الأسعد قائما بأعمال الأمين العام عقب تقديم محمود رياض استقالته فى عام 1979.
ثانيا: مرة ثانية يظهر ما يؤكد أن السياسة الخارجية لم تعد حكرا لجماعة قليلة العدد أو لشخص واحد. صارت السياسة الخارجية المصرية وفى المنطقة عموما أحد اهتمامات الشعوب وأصبح من حق الشعوب إبداء الرأى فيها.
ثالثا: تأكدت نية القطاعات الثائرة أنها لن تتهاون مع أى جهة تحاول تزييف إرادة الشعب والعودة إلى سياسات إضعاف دور مصر الإقليمى والدولى. يأتى رد الفعل الشعبى على هذا النحو كتحذير ضد ضغوط قائمة ومحتملة على الجماعة المكلفة بالحكم للأخذ ببدائل للسياسة الخارجية الراهنة.
رابعا: إن الثورة ما زالت تنمو وتتقدم رغم قسوة الضربات الموجهة إليها. رد الفعل لموضوع وزير الخارجية لا يتعلق بشخص بل بثورة ما زالت تضيف بنودا إلى أجندة تتطور بمرور الأيام.
●●●
أمام الأمين العام الجديد مهام شاقة، فالنظام العربى يدق على أبواب مرحلة استثنائية لم يتعرض لمثلها منذ أعوام النشأة. لم يحدث فى أى مرحلة من مراحل تطور هذا النظام أن بعض شعوبه قرر حلول نهاية مرحلة والاستعداد لمرحلة جديدة.